أهلا بك. لقد وصلنا إلى هذا الوقت المعتاد من كل موسم، الوقت الذي يرتكب فيه فان دايك خطأ ما في مواجهة 1 ضد 1 فيناله من السخرية ما يناله. لسبب واضح، يعتقد أغلب المشجعين في العالم أن قواعد مواجهات 1 ضد 1 في كرة القدم لا تختلف كثيرا عن قواعد معارك السلاح الأبيض في شوارع الإجرام، ومن ثم فالتراجع ليس مجرد خطأ، بل تفريط في الشرف والكرامة.
هذا هو الجمهور ذاته الذي سيذبح فان دايك أو غيره عندما تخطئ قدمه الكرة بملليمترات تسمح للمهاجم بتخطيه والانفراد بالمرمى، وإذا حاولت تلخيص ما يحدث حقا فستصل إلى النتيجة المعروفة سابقا؛ نحن لا نملك طريقة موضوعية للحكم على هذه المواقف، لذا نلجأ إلى حيلة غير عادلة، فننتظر النتيجة ثم نحاسب صاحبها بأثر رجعي، وإن نجح مسعاه فهو شجاع، وإن خاب فهو أحمق. هذه وصفة لا تخيب للتظاهر بالحكمة في أي موقف، مهما بلغت صعوبته.
حكمة مبكرة
عقب مباراة الإياب ضد إنتر في دوري الأبطال مباشرة، نشر حساب شركة “بيك أناليسيس” (Peak Analysis) المصرية، والمختصة بتحليل الأداء الفردي للاعبي كرة القدم المحترفين، لقطة الهدف مع شرح وافٍ لقرار فان دايك الخاطئ الذي تسبَّب في موجة النقد الأخيرة. (1)
يرى مختصو “بيك” أن فان دايك أخطأ فعلا، ولكن لأسباب مختلفة تماما عن تلك التي رآها أغلب مشجعي كرة القدم حول العالم، إذ لم يقع الخطأ في تقنية المواجهة ذاتها، بل في تقديره للموقف ابتداء، فالهولندي تعامل على أنه في موقف 1 ضد 1 ومن ثم بدأ في التراجع وإجبار الأرجنتيني على الخروج لجهة قدمه الضعيفة، بينما في الحقيقة كان ترحيل فابينيو خلفه كفيلا باعتباره موقف 2 ضد 1، بالتالي كان من الأَوْلى أن يسارع فيرجيل بالخروج والضغط على لاوتارو لحظة استلامه للكرة وقبل الدوران، باعتبار أن التغطية متوفرة في حال الخطأ. هناك شرح أفضل للقطة في المقطع التالي.
???? لحد فين التراجع يا فان دايك؟
تساؤلات كتير عن الـ 1 ضد 1 بين فان دايك و لاوتارو، وإذا كان فان دايك اتصرف صح ولا لأ؟ وبعدها شوفنا وضعية مشابهة بين ألابا ومبابي وفيه جدل كبير على الوضعيتين، فوجب التوضيح..#دوري_الأبطال #ليفربول_انتر #ريال_مدريد_باريسpic.twitter.com/pv5g9XhEgY
— Peak (@peak_analysis) March 10, 2022
هنا نتحدَّث عن الحكمة المبكرة، بمعنى أنه كان ينبغي لفان دايك مسح الملعب بصريا لمرة إضافية قبل اتخاذ قراره، وحينها كان سيكتشف موقع فابينيو الذي عاد لعمق الملعب مدافعا ثانيا بذكاء شديد يسمح له بالخروج. كما ترى فهذا أصعب من انتظار نتيجة الموقف ثم تحديد التصرف الصحيح بناء على معلومات لم تكن متاحة للهولندي في تلك اللحظة.
اللافت هنا أنه على الرغم من أن ما جعل هذه اللقطة جديرة بالذكر هو حقيقة أن تسديدة لاوتارو سكنت الشباك، وبالتالي فهي مشوبة بالخطأ البديهي سابق الذكر، وتدفعنا إلى التفكير فيما إذا كنا قد حاسبنا فان دايك بأثر رجعي، لكن المعايير التي وضعها تحليل بيك أناليسيس كانت موضوعية، ويمكن تطبيقها على عديد اللقطات بغض النظر عن النتيجة، وهذا هو المميز في هذا التحليل تحديدا.
المهم أيضا أن خطأ فان دايك هنا كلَّف فريقه تسديدة صعبة بعيدة من خارج المنطقة، تسديدة بعيدة احتاجت إلى درجة لا بأس بها من الانحراف في مسارها لتسكن الشباك، وبأي معيار فهي ليست فرصة حقيقية للتسجيل، ولا حتى متوسطة السهولة.
انظر إلى عينيه
مفاجأة؛ فان دايك يخطئ فعلا. صحيح أن أغلب منتقديه لا يدركون الأسباب الحقيقية لأخطائه عندما تحدث، وعادة ما يختصرونها في أنه كان يجب أن يخرج للمهاجم ويغامر بخسارة كل شيء، ولكن التأكيد أن حتى فان دايك يخطئ أحيانا مهم، لأنه يقودنا إلى السؤال التالي؛ لماذا لم يكن فان دايك مخطئا في تقنية المواجهة ذاتها؟ هل التراجع أمام المهاجمين في مواقف 1 ضد 1 هو الحل الأنسب؟ وبالطبع، السؤال الأهم على الإطلاق؛ ماذا كان ليفعل رجل مثل إبراهيم الأبيض، يتمناه الكثيرون مدافعا في فريقهم؟
المفاجأة الثانية هنا أن فان دايك -أو غيره- لا يقاتل من أجل البقاء حيًّا، وهذا -مفاجأة ثالثة- يُغيِّر الأمر كليا. نحن لا نتحدَّث هنا عن معادلة صفرية لا بد أن يخرج منها أحدهم منتصرا، بل إن معنى الانتصار ذاته يصبح نسبيا في هذه الحالة، مثل مفاهيم الشجاعة والإقدام والجبن. الهدف هنا ليس “التوقيع على جبهة المهاجم”، بل استرجاع الكرة تمهيدا للتحوُّل السريع، وهذا يتطلَّب الحكمة أكثر مما يتطلَّب جرأة إبراهيم الأبيض الحلوة.
في مقطع مُصوَّر نشره حساب “The F2” على تويتر، يشرح الهولندي مقاربته لمواقف 1 ضد 1 لجيريمي لينش، أحد محترفي كرة الأسلوب الحر (Freestyle)، الذي سبق له اللعب لناشئي أرسنال، وإلى جانب القواعد البديهية مثل التعرف على تقنية المراوغة للخصم، وما إذا كان يستخدم كلتا قدميه أم لا، ومن ثم إجباره على الخروج بالكرة ناحية قدمه الضعيفة، فإن أحد أسرار فان دايك كان أنه بعدما يجمع معلوماته عن كل ما سبق، فإنه يحاول النظر إلى عينَيْ المهاجم وهو يحاول مراوغته. (2) (3)
1v1 defending advice from the man himself @VirgilvDijk not bad at scoring from set pieces either! ???? We teamed up with @SCJohnson and @LFC to upcycle my tekkers!!! Check out the full video on our YouTube! ???? #recycling #SCJ #VirgilVanDijk #Robertson pic.twitter.com/qHkx3jZ8r8
— The F2 (@TheF2) January 23, 2022
نظرية الهولندي بسيطة، أي مهاجم يحاول التمويه بقدميه قبل المراوغة، ينصب فخا للمدافع، يحاول استخدام الإيحاء لخداعه، ولكي تنجح الخدعة، لا بد أن يكون تركيز المدافع على ما تفعله قدماه بالكرة، أما النظر إلى عينيه، مع اتخاذ وضعية الجسم الصحيحة لإجباره على الخروج جهة قدمه الضعيفة كما أسلفنا، هو أمر يربك المهاجم، ويدفعه إلى التشكُّك في حركاته مهما بلغت مهارته، ببساطة لأن المدافع هنا يكسر قواعد المواجهة البديهية بتجاهل قدميه.
بعد أن يُقرِّر المهاجم ما سيفعله، وهو عادة يكون ما يريده فان دايك أن يفعله، يستخدم الهولندي خطواته العملاقة في اللحاق به في مسافة قصيرة، ثم يأتي دور القاعدة الثانية المهمة؛ كلما أمكن، يجب أن يكون التدخُّل على الكرة باستخدام القدم الخارجية الأقرب للمهاجم، وحتى لو لم تكن القدم القوية أو المفضلة للمدافع، كما يتضح في الصورة التالية.
هذه التقنية تمنحه عدة مكاسب دفعة واحدة؛ أولا هذه هي أقصر وأسهل طريقة لوضع جسده بين المهاجم والكرة، وهو المطلوب ابتداء لاستخلاص الكرة لا مجرد تشتيتها. وثانيا، يسمح التدخُّل بقدمه الأقرب للمهاجم بالارتكاز على ركبته كما يظهر في الصورة، وهذا يمنحه قدرا من التوازن يسمح له باستخدام هذه الوضعية للاندفاع في الركض مجددا إن فشلت محاولته الأولى، على عكس ما يحدث إن قرَّر التزحلق على العشب والمخاطرة بخروجه من اللعبة تماما.
ثالثا، تسمح هذه التقنية للمدافع باستخدام ثقله للإخلال بتوازن المهاجم من الخلف، ومنعه من استعادة الكرة بمجرد إيقافها. وأخيرا والأهم، كثيرا ما ينجح فان دايك في إيقاف الكرة تماما أو ردها خلف المهاجم باستخدام هذه الطريقة، وهذا يعني استرجاعا نظيفا للكرة وفرصة للتحوُّل، لا مجرد إنهاء يائس للموقف.
العيب الوحيد هنا هو أن تلك التقنية قد تزيد من احتمالات قطع الرباط الصليبي للركبة، تحديدا بسبب استخدام العضلة الخلفية كابحا لاندفاع المهاجم. بالطبع هذا في حال لم تكن ساقك بقوة ساق فان دايك ذاتها، أو في حال لم يكن طولك 193 سم ووزنك 92 كيلوغراما. ما يزيد من قوة فان دايك في مثل هذه المواقف كذلك هو نِسَب جسمه، وتحديدا نسبة طول جذعه إلى طول ساقَيْه، ما يجعل احتفاظه بتوازنه أسهل من المتوقَّع أثناء الاندفاع الشديد أو التوقف المفاجئ، وعلى حد علمنا، لم يصب فان دايك بسبب تلك التقنية أبدا.
قاوم غريزتك.. أو أطلقها
المشكلة الرئيسة في هذه المقاربة لمواقف 1 ضد 1 أنها لا تصنع الكثير من اللقطات المثيرة، وهذا هو ما يجعل ابتلاعها صعبا على الكثير من المشجعين الذين شبّوا على اعتبار هذه المواقف مناسبة لتأكيد شجاعة المدافع وإقدامه، وامتحانا لمدى جرأته ودقة قراره. هذه المواجهات تصنع الذكريات مع المدافعين لأن قبل وقوعها مباشرة يصل الأدرينالين إلى أعلى نسبة، فمخاطرة المدافع بالتزحلق معتمدا على دقة توقيته تعني أنها صارت معركة صفرية؛ أن تفوز بكل شيء أو تخسره.
المفاجأة هنا أن هذا هو عكس المطلوب بالضبط، وعكس ما يسعى له فان دايك عادة، شأنه شأن المدافعين الكبار الذين يعلمون أن الحكمة لها الأولوية في مثل هذه المواقف. الإثارة قد تكون ما يطلبه الجمهور، ولكن ما يتطلَّبه الانتصار بالمباراة فعلا هو احتمالات فوز أعلى من 50-50 في مثل هذه الوضعيات، وهذا يعني أن تقود المهاجم إلى موقف ضعف أولا، تصبح فيه القوة الجسدية -لا المهارة- عاملا حاسما. الحكمة هي أن تقوده للعب وفق قواعدك لا قواعده. (4)
في أحد أجزاء سلسلة كتب “اللاعب السري” (The Secret Footballer)، التي يحكيها أحد اللاعبين السابقين في البريميرليغ، دون الكشف عن هويته، يتحدَّث الرجل عن بُغضه العميق للمدافعين الذين يتعمَّدون افتعال هذه الزحلقات لانتزاع آهات الجماهير، إذ يعتقد اللاعب السري أن الكثير من المدافعين يُفضِّلون تدخُّلا مندفعا على استباق الموقف واستخلاص الكرة قبل أن يتطوَّر الموقف، ببساطة لأن الأخيرة تبدو سهلة، بينما الأولى تُشعِر المتفرجين بالخطر، وبالتالي تعلق بذاكرتهم. (5) (6)
في الواقع، إحدى أهم سِمَات المدافع الذكي هي قدرته على التحكم في مشاعره في مثل هذه المواقف، وكبح جماح غريزته التي قد تدفعه إلى تصرُّف هيستيري متهور لا تؤمن عواقبه. الأيرلندي الشمالي بول ماكفاي، مهاجم نوريتش السابق، الذي تحوَّل بعد اعتزاله إلى دراسة علم النفس الرياضي، يتحدَّث في كتابه “وفاة اللاعب الغبي” (The Stupid Footballer Is Dead) عن المفهوم نفسه مع مَن يعتبره أعظم مدافع واجهه؛ جون تيري. (7)
ماكفاي يعتقد أن أحد أهم أسباب تفوُّق الإنجليزي الدولي السابق هو قدرته على توقُّع ما بعد الحركة الأولى للمهاجم، ويحكي أن حِيَله لم تنطلِ على مدافع تشيلسي، لأن أمثاله قد درَّبوا نفسهم -من واقع الخبرة- على إلغاء رد فعلهم العاطفي الغريزي بالخروج لمقابلة مهاجم سريع أو مراوغ أو مستفز بالمعنى الكروي، ومنح عقولهم ثانية إضافية للتفكير وحساب العواقب، ومع الوقت، يستبدل ذلك غريزتهم ويصبح أول ما يفكرون فيه. تصبح غريزتهم الأولى هي الحكمة وكبح جماح الهيستيريا.
شعرة الاستهتار
السؤال الذي يطرحه كل ما سبق، وتزداد منطقيته مع أي إشادة يتلقَّاها العملاق الهولندي، غالبا ما يكون عن السبب في تأخُّر سطوعه على الساحة الأوروبية، الذي أبقاه مغمورا في أندية وسط الجدول حتى السادسة والعشرين من عمره.
هذا السر يكشفه ديك لوكيين، مدربه في خروننخن الهولندي حيث بدأ مسيرته، إذ يحكي عن شاب على درجة من الزهو، لا يتدرب بالحدة ذاتها التي يتدرب بها الآن، ولا يُطوِّر من نفسه ولا يدفعها لتقديم أفضل ما تملك. فان دايك نفسه يحكي أنه لم يكن باحترافيته ذاتها الآن. (8)
“أدركت موهبته على الفور، ولكني أدركت كذلك أنه كان مسترخيا أكثر من اللازم؛ أحيانا كان يتدرب بكل طاقته، وأحيانا أخرى كان يقدم 50% أو 60% فقط مما يملك”.
(ديك لوكيين، مدرب فان دايك في خروننخن الهولندي)
يحكي لوكيين أن اكتساب ثقة فيرجيل قد استغرق ستة أشهر كاملة، ومن حينها، تحسَّن مستوى الهولندي باطراد، وقبل أن يدرك أيٌّ منهما حجم التطور كان سيلتك الاسكتلندي يطلب التعاقد معه. ومن هناك، كانت مسألة وقت قبل أن ينتقل إلى أفضل دوريات العالم. في حوار آخر مع “سكاي سبورتس” (Sky Sports)، يقول كريس كومُنز، هداف الفريق آنذاك، إن أول فكرة طرأت في رأسه عندما شاهد مستوى الهولندي في التدريبات كانت: “كيف يلعب مدافع بهذا المستوى في سيلتك أصلا؟”. (8)
كان أول ما أخبره به نيل لينون، مدربه الأول في سيلتك، أن عليه الاستمتاع بوقته في النادي جيدا لأنه لن يبقى طويلا، وسرعان ما سيرحل إلى إنجلترا. المثير كان ما ذكره مدربه اللاحق روني دايلا، الذي أكَّد أن مَن علَّم فان دايك أساسيات الدفاع كان زميله في الفريق آنذاك، البلجيكي جيسون ديناير، حيث كوَّنا معا ثنائية خارقة للعادة، وهو ما دفع سيتي للحصول على خدمات ديناير لاحقا. (9) (10) (11)
هل تعلَّم فان دايك مهاراته من مدافع بلجيكي نصف مغمور لم ينجح في حجز مكان أساسي في تشكيلة أي نادٍ أوروبي كبير؟ ربما، وربما يبالغ دايلا، ولكن ما نعلمه يقينا أنه لم يتعلَّمها لأنه استمع لنصائح الجماهير المتحمسة، ولا لأنه يتخذ إبراهيم الأبيض مثلا أعلى. في الواقع، ورغم جرأته الحلوة، حتى إبراهيم الأبيض كان حكيما بطريقته الخاصة.
___________________________________________________________
المصادر:
- تغريدات حساب بيك أناليسيس على لقطة فان دايك ولاوتارو – Twitter
- فيديو فيرجيل فان دايك وهو يمنح نصائح في مواجهات 1 ضد 1 لا يقدر بثمن – Give Me Sport
- 3 قواعد مهمة يمكنك تعلُّمها من فان دايك – Unisport
- فان دايك: “في مواجهات 1 ضد 1 عليك أن تستدرج المهاجم للفخ!” – Sports Illustrated
- سلسلة كتب اللاعب السري – Amazon
- سلسلة التقارير عن اللاعب السري – The Guardian
- كتاب: وفاة اللاعب الغبي لبول ماكفاي – Amazon
- كيف أصبح فيرجيل فان دايك الأفضل في العالم؟ – Sky Sports
- جيسون ديناير كان هو مَن علَّم فيرجيل فان دايك كيفية الدفاع في سيلتك، طبقا لروني دايلا مدربهم السابق – Glasgow Times
- فان دايك: “البعض يقولون إنني أجعل الدفاع يبدو سهلا، ولكن كل المباريات صعبة!” – The Guardian
- تحليل ليفربول: ما الذي يجعل فان دايك أفضل مدافع في العالم؟ – Talk Sport