الحجاب رمز تاريخي للنضال ضد القمع والاضطهاد الذي تعرض له المسلمون في العالم
أصبح الحجاب مؤخرا مثار جدل كبير في المجتمعات الغربية، وذلك لظهوره بشكل متزايد في شوارع المدن الأوروبية والعالمية، وقد أدى هذا الظهور إلى العديد من ردود الفعل السياسية والاجتماعية، ووصل بعضها إلى حد الاعتداء الجسدي على العديد من المسلمات المحجبات في هذه المدن.
وكثيرا ما أخذ الحجاب أبعادا سياسية، بل برز بوصفه رمزا للاحتجاج على القمع الذي يتعرض له المسلمون في بعض دول العالم، أو في كفاح الشعوب ضد الطغاة، مثلا، ارتدت النساء الإيرانيات الحجاب طواعية بوصفه نوعا من الاحتجاج ضد حكم الشاه، أو إصرار المسلمات الأميركيات على ارتداء الحجاب احتجاجا على ظاهرة الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، كما تقول الكاتبة والباحثة الدكتورة “آنا بيلا“، وهي أستاذة جامعية متخصصة في الدراسات الدينية في جامعة نورث ويسترن الأميركية في مقالة نشرتها منصة “جيستور ديلي” (Jstor daily) مؤخرا، نقدم لكم أبرز ما ورد فيها.
الحجاب رمز سياسي
تاريخيا، كان الفاعلون السياسيون الذين حظروا أو فرضوا حظرا جزئيا على الحجاب، قد فعلوا ذلك للإشارة إلى توجههم العلماني “الحديث”، منهم -على سبيل المثال- رضا شاه بهلوي عام 1936 في إيران، ومصطفى كمال أتاتورك في تركيا قبل حوالي قرن من الزمان.
استمرت سلالة بهلوي في حكم إيران حتى السبعينيات من القرن الماضي، ولاقى حكم الشاه معارضة واسعة من قبل الشعب الإيراني، وكدليل على الاحتجاج المدني والمقاومة، ارتدت النساء الإيرانيات الحجاب طوعا. إنها واحدة من عدة لحظات في التاريخ استخدم فيها الحجاب رمزا للمقاومة، وكما كتبت هوما هودفر “الحجاب تجربة معيشية مليئة بالمعاني المتعددة”.
وكان الملك أمان الله، ملك أفغانستان، قد حظر بشدة وعنف ارتداء الحجاب في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وعلى النقيض من ذلك، قامت جمهورية إيران الإسلامية، منذ وصولها إلى السلطة في عام 1979، بفرض الحجاب رمزا لنهجها في الحكم، في مغايرة واضحة لنهج حكم الشاه المخلوع.
وخلال فترة الاستعمار البريطاني في مصر، كان الحجاب مثارا للجدل، حيث دعا اللورد كرومر، القنصل البريطاني في النصف الثاني من القرن الـ19، إلى “تحرير رأس” المرأة المسلمة، وهو ما اعتبره تحسينا لحياتهن، في وقت كان يعارض بفيه شدة حق الاقتراع للمرأة المصرية.
وتشرح ليلى أحمد في كتابها “النساء والجنس في الإسلام” أن المرأة المصرية لديها آراء أكثر تنوعا وتباينا حول الحجاب، وتقول “في حين رفض البعض، مثل هدى شعراوي، مؤسسة الاتحاد النسوي المصري، الحجاب بشكل صارم، كان لدى البعض الآخر آراء مغايرة مثل ملك حفني ناصف التي اتخذت موقفا أكثر اعتدالا بكثير ودعت إلى أن تكون المرأة قادرة على أن تقرر بنفسها ما إذا كانت ستغطي رأسها وترتدي الحجاب أم لا، وعلى الطرف الآخر كان هناك نساء مثل زينب الغزالي، معاصرتهن وأحد قادة الحركة الإسلامية في مصر، التي دعت إلى أن يكون الحجاب إلزاميا”.
من جهتها أشارت الباحثة فدوى الجندي إلى أن تبني ارتداء الحجاب ساعد المرأة المصرية على حماية الفرص التي أتاحها التحديث، مثل الوصول إلى التعليم والقدرة على العمل خارج المنزل، وعندها تم استخدام الصورة النمطية عن “المرأة العصرية” على أنها غير مسؤولة اجتماعيا، وبالتالي صار الحجاب وسيلة لنيل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ومع ذلك، فإن الحجاب -بالإضافة إلى الملابس التقليدية المحتشمة الأخرى كالعباءة والجلباب والنقاب الذي يغطي الوجه- لعب دورا أكثر تعقيدا بالنسبة للنساء اللائي ارتدته أكثر بكثير من حصولهن على القبول الاجتماعي، وبالنسبة للعديد من النساء، كان ارتداء الحجاب ولا يزال عنصرا من عناصر التقوى.
الإيرانيات يرتدين الحجاب طواعية للاحتجاج على حكم الشاه
مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أصبح الحجاب عدسة يفسر من خلالها المراقبون الخارجيون التطورات هناك، وفي كثير من الأحيان أساؤوا فهمها عن قصد أو غير قصد.
اعتبرت وسائل الإعلام الغربية أن “الشادور” (النسخة الفارسية من الحجاب) الذي يغطي الرأس دليل على أن المجتمع الإيراني يعتبر المرأة أقل شأنا، على الرغم من أن النساء كن هن البادئات في ارتداء الحجاب بشكل عفوي وطوعي كنوع من الاحتجاج على حكم الشاه قبل الثورة.
ولكن عندما قرر آية الله الخميني أن النساء يجب أن يرتدين الشادور تم تصوير النساء اللاتي اعترضن على هذا القرار كنساء ثوريات يدافعن عن القضية النسوية على الطريقة الغربية، إذ تم محو الجانب المناهض للاستعمار في احتجاجاتهن، ولا سيما انتقاد تورط القوى الغربية في صناعة النفط الإيرانية.
وفي هذا السياق تجادل “سيلفيا شان مالك” بأن هذه كانت البداية لثنائية جديدة عند الإعلام الغربي: “الإسلام” مقابل “النسوية”. وهو الذي مهد الطريق أمام تبريرات مستقبلية للحرب كوسيلة لتحرير النساء من اضطهاد الرجل، وكانت المساواة بين الجنسين على وشك أن تكون قيمة “أميركية” يجب تقديمها بطريقة عسكرية.
المسلمات الأميركيات يستخدمن الحجاب للاحتجاج على الإسلاموفوبيا
قدمت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 حقبة جديدة عوقب خلالها المسلمون بشكل جماعي على ما ارتكبه 19 متورطا في الهجوم، إذ ارتفعت جرائم الكراهية ضد المسلمين بمقدار 17 ضعفا في عام 2001 مقارنة بعام 2000، وكانت النساء اللواتي يرتدين الحجاب أهدافا واضحة.
وكثيرا ما تعرضت النساء للتمييز في العمل والتنميط العنصري في المطارات، وألقت الدعاية الأميركية لـ”الحرب على الإرهاب” باللوم على الإسلام في الأعمال الإرهابية، وكان على المسلمين الأميركيين أن يختاروا الإسلام أو النظام الأميركي من أجل البقاء.
قررت المسلمات الأميركيات بأغلبية ساحقة الخروج من هذه الثنائية المصطنعة، حيث ارتدت الآلاف منهن الحجاب وسيلة للاحتجاج، ومطالبات في الوقت نفسه بالحق في أن يكن أميركيات.
وفي إشارة إلى حجابها الذي ارتدته حديثا، رفعت نساء مسلمات وقتها شعار “الإسلام جميل! تعامل مع هذه الحقيقة!”، واستذكرت امرأة تمت مقابلتها في مشروع حول ارتداء النقاب في أميركا نصيحة زميلتها في العمل بعد أن ارتدت الحجاب “حليمة، كل ما عليك القيام به هو مجرد لف علم أميركي كبير حول رأسك وبعد ذلك لن يقلق أحد بشأن ولائك”.
ومع ذلك، فإن تأطير الإسلام على أنه غير أميركي بطبيعته يمحو تجارب وأصوات المسلمات الأميركيات من أصل أفريقي، اللاتي يعود إرثهن إلى أكثر من 400 عام ابتداء من حقبة السفن المحملة بالعبيد والمتجهة إلى أميركا الشمالية، وكان حوالي 30% من هؤلاء من المسلمين.
وتشير قصصهن إلى أن التمييز بالنسبة لهن كان مضاعفا ويشمل تحيزا عنصريا بسبب لون بشرتهن، وجنسانيًا كونهن نساء ومعاديا للمسلمين في وقت واحد، وفي حين أن هناك توترات عرقية ودينية بين الهويات “العابرة للحدود” (المهاجرين الجدد) وهويات المسلمين الأميركيين من أصل أفريقي، فإن كيفية ممارسة هذه الجماعات للإسلام تؤثر على بعضها بعضا، وعلى سبيل المثال، تتبنى بعض المسلمات الأميركيات من أصول أفريقية الحجاب الملفوف “على الطريقة العربية” بدلا من العمائم التي تحظى بشعبية في أوساط أخرى.
تناقض الإعلام الغربي
بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، تم تصوير الحرب على أسامة بن لادن وأنصاره في أفغانستان على أنها حرب نبيلة لتحرير النساء الأفغانيات اللائي اضطررن إلى ارتداء البرقع ضد إرادتهن كما صورت الدعاية الغربية. وتم استذكار “الشهرة السيئة” للشادور الإيراني في عيون الغرب في عام 1979، وفي العام 2001 أصبح البرقع رمزا لاضطهاد المرأة على يد حركة طالبان.
وبرز هذا بشكل واضح في المبررات الساخرة لـ”الحرب على الإرهاب” التي قدمها الفاعلون السياسيون اليمينيون واليساريون على جانبي المحيط الأطلسي. وأوضحت السيدة الأولى لورا بوش ذلك في خطاب إذاعي في نوفمبر/تشرين الثاني 2001 عندما أكدت أن “الحرب على الإرهاب هي أيضا كفاح من أجل حقوق المرأة وكرامتها”. ومع ذلك، فإن حكم طالبان القاسي لم يكن جديرا بالملاحظة للغرب إلا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وقبل ذلك كان يتم تصوير المجاهدين الأفغان من حركة طالبان وغيرها كالمؤسسين الأميركيين الأوائل في الإعلام الأميركي، وفي هذا ما فيه من تناقض.
الحجاب في فرنسا
في عام 2004، أطلق “حظر الحجاب” الفرنسي موجة من التشريعات التي استهدفت النساء المسلمات اللائي يرتدين النقاب، وجادل السياسيون المؤيدون للحظر بأن النقاب يُفرض على النساء من قبل الأقارب الذكور، وقارنوا ارتداء النقاب بارتداء البرقع الذي تفرضه طالبان في أفغانستان.
وتم تجاهل الحجج المضادة التي قدمتها المسلمات الفرنسيات اللائي أصررن على أن ارتداء النقاب هو باختيارهن ولم يجبرهن أحد عليه، ولم تنجح الطعون القانونية على هذا التشريع في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لكن الأحكام تعرضت لانتقادات واسعة من قبل علماء القانون الذين رأوا أن تفسير المحكمة لـ”الممارسة الدينية” متجذر في اللاهوت المسيحي، وجادلوا بأن المحكمة يمكن بدلا من ذلك أن تقبل الموقف الذي تتخذه النساء اللواتي يرتدين النقاب بأن هذا هو خيارهن الشخصي، وبخلاف ذلك، تجرم هذه القوانين النقاب، مما أدى في النهاية إلى غياب النساء اللواتي يرتدين النقاب من الأماكن العامة.
وفرضت العديد من البلدان، بما في ذلك 7 دول في أوروبا، حظرا مشابها على النقاب، وآخرها سويسرا في عام 2021، كما يسري حظر جزئي أو إقليمي في أماكن أخرى لا سيما في مقاطعة كيبيك الفرنكوفونية، حيث يُمنع الموظفون الحكوميون من ارتداء أي رموز دينية في العمل.
الأزياء الإسلامية بوصفها حركة احتجاج عالمية
وربما بسبب كل هذه القيود، فإن العديد من النساء المسلمات أخذن بتحدي الصورة النمطية السلبية المرتبطة بالزي الإسلامي، وأخذ الكثير منهن بالترويج للأزياء الإسلامية المحتشمة حتى تشكلت حركة عالمية تحت اسم “موديست فاشن” (modest fashion) تقودها نساء متدينات اخترن تصميم وارتداء أزياء مستقاة من الثقافة الإسلامية، ولكنها حديثة وعصرية في الوقت ذاته، وتتحدى الصورة النمطية للنساء المحجبات في الإعلام والفكر الغربي.
أصبح الحجاب والنقاب مثيرين للجدل لأنه تم اختطافهما من شكلهما الديني من قبل السياسيين، واستغلالهما من قبل الفاعلين الجيوسياسيين والحركات التي تستخدم موقفها المزعوم، سواء سلبا أو إيجابا، تجاه اللباس الإسلامي كشكل من أشكال المواقف السياسية.
وفي هذا السياق يؤكد العالمان غلام خياباني وميلي ويليامسون “أصبح من المستحيل الحديث عن الإسلام دون الرجوع إلى النساء، ومن المستحيل الحديث عن المسلمات دون الإشارة إلى الحجاب”. وهكذا، فإن “خطاب الحجاب” الذي ابتدعه الجميع ما عدا المسلمات قد طغى إلى حد كبير وللأسف على الرؤى التي توصلت إليها النساء المسلمات أنفسهن حول هذا الموضوع.