لكي يتأتى لنا فهم الكيفية التي تتم بها تجارة المخدرات عبر الشبكة المظلمة، قام كل من جو تايدي وأليسون بينجامين من بي بي سي بشراء نوعين من المخدرات، هما عقار النشوة والكوكايين. وقد اكتشفا السهولة الكبيرة التي يواصل بها تجار المخدرات عملهم عبر تلك الشبكة، حتى بعد أن تقوم الشرطة بإغلاق المتاجر التي يعمل من خلالها هؤلاء التجار.
عند النظر إلى موقع “توريز” ( Torrez) الإلكتروني، بدا كأي موقع عادي للتسوق، حيث كان يعرض آلاف المنتجات، ويحتوي على شهادات الزبائن وتقييماتهم لكل بائع، ومعلومات عن خدمات التوصيل وطرق الدفع.
الاختلاف الوحيد كان في المنتجات ذاتها.
فهي ليست كتلك التي تجدها على مواقع أخرى مثل “إي باي”( eBay) أو “أمازون” ( Amazon)، بل تشمل على سبيل المثال، كوكايين قشر السمك البيروفي، عقار النشوة بالشامبانيا، عقار نشوة ذو حبات زرقاء…إلخ.
حتى أسابيع قليلة مضت، كان “توريز” سوقا إلكترونيا على الشبكة المظلمة يلتقي المستخدمون من خلاله بائعين يروجون للكثير من المنتجات غير القانونية، كالمخدرات وأدوات اختراق المواقع الإلكترونية والأوراق المالية المزورة والمسدسات الصاعقة.
كان واحدا من أشهر الأسواق العالمية على الشبكة المظلمة، وقد أصبحت بي بي سي واحدة من بين آخر زبائنه.
في إطار تحقيق أجرته الإذاعة الرابعة في بي بي سي( Radio 4)، استخدمنا “توريز” لشراء بعض حبوب النشوة من بائع في المملكة المتحدة.
كانت تجربة كشفت لنا الكثير من المعلومات والمفاجآت.
هناك اعتقاد سائد بأن شراء مخدرات على الشبكة المظلمة هو بنفس سهولة طلب شطائر البيتزا، ولكن شراء المخدرات باستخدام العملات الرقمية المشفرة ( crytpocurrency)، والتواصل مع البائع من خلال رسائل مشفرة، استغرق ساعات طويلة.
وصلت الحبات “ذات القوة الخارقة” في البريد في غضون يومين كما وعد البائع.
جاءت الحبات الثلاث الصغيرة في صندوق ضخم – وهو أحد الأمثلة على طريقة “التعبئة والتغليف التمويهية” التي تستخدم للتعمية عن المحتويات.
ووصلت علبة تحتوي على الكوكايين من بائع على موقع إلكتروني آخر، ومرفق بها فاتورة وهمية من شركة تبيع الأعشاب الطبية.
أعطت بي بي سي المخدرات لأحد المختبرات لفحصها. وقد أظهر الفحص أنها لم تكن قوية كما زعم بائعوها. وقام المختبر بإتلافها فيما بعد.
تقدر الأمم المتحدة أن أسواق الشبكة المظلمة تمثل نسبة ضئيلة من تجارة المخدرات العالمية – ربما أقل من واحد في المئة، وإن كانت تلك النسبة آخذة في التنامي.
لكن استطلاعا أجري العام الماضي وشمل عشرات الآلاف من متعاطي المخدرات عبر أنحاء العالم، يرسم صورة مختلفة للوضع. فقد أظهر أن نحو واحد من بين أربعة ممن شملهم الاستطلاع قال إنه اشترى مخدرات عبر الشبكة المظلمة.
في روسيا، كانت النسبة 86 في المئة، وفي فنلندا والسويد أكثر من 40 في المئة، بينما كانت أكثر من 30 في المئة في كل من إنكلترا واسكتلندا وبولندا.
وقد شهدت أسواق المخدرات الرقمية على الشبكة المظلمة انخفاضا العام الماضي، ولكن الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في المملكة المتحدة ذكرت أن العائدات ارتفعت بمعدل 14 في المئة.
يتسم عالم مخدرات الشبكة المظلمة بالفوضى، كما أنه دائم التغير.
تغلق بعض المواقع بين الحين والآخر، وتختفي، وتختفي معها أموال الزبائن أو البائعين – يسمى ذلك “احتيال الخروج”. كما أن هذه المواقع تُخترق في بعض الأحيان، أو تكتشفها الشرطة وتغلقها.
لكن هناك اتجاه جديد لتلك الأسواق الإلكترونية، يتمثل في أنها تغلق بشكل منظم، أو ما يسمى “الاختفاء” أو “التقاعد الاختياري”.
وهذا بالضبط ما فعله الخريف الماضي واحد من أكبر تلك الأسواق، والمسمى “سوق البيت الأبيض ” (White House Market)، وتبعه سوق إلكتروني آخر هو “كانازون” (Cannazon).
ثم فعل “توريز” الشيء ذاته، إذ كتب على صفحته الرئيسية الشهر الماضي رسالة تعلن إغلاق الموقع، وتضيف: “لقد كان من دواعي سرورنا التعاون مع غالبية الباعة والمستخدمين”.
وشكر الشخص المسؤول عن إدارة الموقع الزبائن، ووعدهم بأن السوق سيظل مفتوحا “على الأقل لأسبوعين أو ثلاثة حتى يتم الانتهاء من إتمام جميع الطلبات”.
وكتب أحد الزبائن: “شكرا لكم على مثل هذا الخروج المشرف، إنه شيء نثمنه”، في حين كتب آخر: “شكرا لكم على التعامل مع الأمر بحرفية وأمانة”.
يقول البروفيسور ديفيد دوكاري أيتو أستاذ علم الجريمة بجامعة مونتريال: “في الوقت الراهن، يبدو أن ذلك يتكرر بشكل أكبر. فتلك الأسواق تخرج بشكل محسوب، إذ تكون قد حققت أرباحا كافية، وتؤثر التقاعد المريح قبل أن تكتشفها السلطات”.
ويمضي في القول بأن القائمون على إدارة الأسواق الإلكترونية الضحمة مثل توريز يحققون ما لا يقل عن مئة ألف دولار أمريكي في اليوم من العمولات التي يحصلون عليها من التجار.
ولكن مثل هذا الخروج يثير مشاعر مختلطة لدى الشرطة، التي تفضل أن يحاسَب المجرمون.
يقول ألكس هدسون، رئيس وحدة الاستخبارات الخاصة بالشبكة المظلمة بالوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة: “دائما ما أحيي أي شخص يدرك أنه يعمل في مهنة مجرّمة، ويقرر ألا يتمادى في ذلك”.
“إذا كان هناك شيء يدعو للأسف، فهو أننا بحاجة إلى محاسبتهم على ذلك، وينبغي أن يدركوا أنهم سيحاسبون على ما اقترفوا”.
ولكن رغم أن التقاعد صار شائعا، فإن تحليل بيانات أجرته بي بي سي أظهر أن غالبية حالات إغلاق الأسواق لا تزال تتم بطريقة “احتيال الخروج”.
كما أن قيام الشرطة بإغلاق تلك الأسواق أقل شيوعا.
يقضي الأمريكي روس أولبريشت عقوبتي السجن مدى الحياة لفترة لا تقل عن 40 عاما بتهمة إدارة أول سوق رئيسي على الشبكة المظلمة، “طريق الحرير” ( Silk Road) بين عامي 2011 و 2013.
وفي أكتوبر الماضي، اعتقل 150 مشتبها بهم فيما وصفته وكالة مكافحة الجريمة بأكبر عملية من نوعها، والتي أتت على خلفية ضبط وإغلاق الموقع المسمى “السوق المظلمة” ( Dark Market) في يناير/كانون الأول عام 2021.
كانت عملية تعاونت فيها شرطة عدد من البلدان، وتم خلالها اعتقال مشتبه بهم في كل من الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة وغيرها.
ولكن حتى بعد إغلاق سوق إلكتروني مخالف للقانون، قد لا يكون لذلك تأثير يذكر على البائعين الذين يمكنهم أن ينتقلوا بكل بساطة إلى سوق جديد.
وأظهرت البيانات التي قامت بي بي سي بتحليلها أن ما لا يقل عن 450 من تجار المخدرات الذين ينشطون حاليا، تمكنوا من تفادي عمليات سابقة للشرطة.
يشمل ذلك تاجر يطلق على نفسه اسم The Next Generation، والذي ينشط على 21 سوقا إلكترونيا مختلفا منذ ستة أعوام.
ويقدر أن هذا الشخص، أو هذه المجموعة من الأشخاص، قام أو قاموا ببيع منتجات كالقنب والكوكايين والكيتامين ما لا يقل عن 140 ألف مرة.
أخبرنا The Next Generation عبر رسائل إلكترونية مشفرة بأن الشرطة تواجه “مهمة مستحيلة”.
وأضاف أنه “بشكل عام، يتم القبض على هؤلاء التجار بسبب خطأ بسيط يرتكبه أحد المستخدمين. فالشرطة لا تستيقظ صبيحة يوم من الأيام وتحل شفرة ما وتلقي القبض على الأشخاص.”
كما أخبرتنا “رابطة بيغماليون”، التي تقول إنها تضم مجموعة من التجار من المملكة المتحدة، بأنهم لم يكونوا قلقين من أن يفتضح أمرهم ويقبض عليهم، لأنهم كانوا بالغي الحرص – وكأنهم “عملاء استخبارات على أرض العدو”.
وقالوا إن “قيام وكالات تطبيق القانون بإغلاق مواقع الأسواق لم تؤثر على عملنا على الإطلاق، وأعتقد أن غالبية التجار الآخرين لا يكترثون بها أيضا”.
يعترف أليكس هدسون من الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة بأن المجرمين يسبقون الشرطة بخطوة واحدة في أغلب الأحيان، لكنه يقول إن التكنولوجيا الحديثة سوف تحدث فرقا.
وأخبر بي بي سي بأنه “حتى مقارنة بالوضع قبل بضعة أعوام، فإننا نستطيع الآن انتزاع معلومات من البيانات التي نحصل عليها، ما يمكننا من تحديد هوية المجرمين بشكل أسرع”.
“أعتقد أن ما نراه الآن بالفعل هو تحول كبير”.