يرى مراقبون أن هذه الأزمة، التي أخذت زخما كبيرا غطى حتى على الأزمة الأوكرانية، سيكون لها تأثير على الحملات الانتخابية واستطلاعات الرأي بالنسبة لمختلف المترشحين، وستكون شوكة في حلق فرنسا.
باريس– تشهد جزيرة كورسيكا التابعة لفرنسا احتجاجات اجتماعية واضطرابات كبيرة، منذ مطلع مارس/آذار الجاري، وقد تحولت إلى أعمال عنف وتخريب ونهب، مع مطالب بالاستقلال عن الجمهورية الفرنسية. وقد حمل المحتجون رايات الاستقلال، وهتفوا بسقوط الجمهورية واصفين الدولة الفرنسية بـ”السفَّاحة”.
وتفجرت الأزمة على إثر الاعتداء على الناشط الانفصالي إيفان كولونا في الثاني من مارس/آذار الجاري داخل أحد السجون الفرنسية، ثم الإعلان عن وفاته مساء الاثنين الماضي متأثرا بالجروح التي أصيب بها في ظروف غامضة. وكان كولونا، الذي يطالب باستقلال الجزيرة عن فرنسا، يقضي عقوبة السجن مدى الحياة بعد إدانته بتهمة قتل مسؤول الإدارة المحلية كلود إرينياك عام 1998.
وفي محاولة منها لامتصاص غضب الشارع الكورسيكي، سارعت السلطات الفرنسية إلى اتخاذ جملة من الإجراءات لصالح السجناء الانفصاليين، فأسقطت عنهم الوضع الخاص الذي كان يحرمهم الزيارة في المعتقل.
في حين سارع وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الثلاثاء الماضي، إلى زيارة الجزيرة المضطربة، وصرح بأن الدولة مستعدة لمنح الجزيرة نظام الحكم الذاتي، وربط ذلك بتوقف أعمال العنف.
لكن ذلك لم يوقف المظاهرات والاحتجاجات في كورسيكا على خلفية وفاة الناشط “الأيقونة” بالنسبة للانفصاليين، الذي يعد رمزا لقضية المطالبة بالاستقلال التي تتواصل منذ نحو 25 عاما.
لهيب الثورة
في اليوم التالي لوفاة الناشط الانفصالي، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى “الهدوء والمسؤولية” في كورسيكا، مؤكدا أن “العواقب” سيتم “استخلاصها”. في وقت وعد فيه المتحدث باسم الحكومة غابرييل أتال، في اليوم نفسه، بأنه “سيتم الكشف عن كل هذا الاعتداء الذي تم تحت أنظار كاميرات المراقبة لمدة 8 دقائق، ومن دون أي تدخل من حراس السجن”.
وأما جيل سيميوني، الرئيس المستقل للمجلس التنفيذي لكورسيكا، فغرّد على تويتر، قائلا إن “وفاة إيفان كولونا تعد ظلمًا ومأساة ستطبع التاريخ المعاصر لكورسيكا وشعبها”.
ورغم كل هذه الأصوات الداعية للتهدئة والحوار، فمن المتوقع أن يتصاعد “لهيب ثورة الاستقلال” في الجزيرة وتتجدد الاحتجاجات بعد وفاة “الزعيم الرمز” كولونا، وهو ما يفتح أبواب هذه الأزمة على المجهول، خاصة أن جانبا كبيرا من الرأي العام في فرنسا -وليس في كورسيكا فقط- يعتبر كولونا “بريئا وشهيدا”، رغم كونه “في نظر العدالة مذنبا”، وفقا لما أوردته صحيفة “لوفيغارو” (Le Figaro) في عددها أول أمس الخميس.
علاقة معقدة بفرنسا
بموقعها الإستراتيجي في البحر المتوسط، وبتنوعها وثرائها الجغرافي والثقافي، تعد جزيرة كورسيكا من أهم الوجهات السياحية في العالم. والفرنسية هي اللغة الرسمية للسكان، كما يتقن معظمهم أيضًا اللغة الكورسيكية القديمة “كورسو” (Corsu).
كورسيكا رابع أكبر جزيرة من حيث المساحة بالبحر الأبيض المتوسط بعد صقلية وسردينيا وقبرص، بمساحة قدرها 8681 كيلومترا مربعا، وتقع على بعد 170 كيلومترا من جنوب فرنسا، و90 كيلومترا من شمال غرب إيطاليا.
ومن أشهر مدن جزيرة كورسيكا، سارتين وبورتو فيكو وباستيا، وبالطبع عاصمتها أجاكسيو التي ولد فيها نابليون بونابرت عام 1769.
تاريخيا، تنازعت العديد من القوى البحرية على أرض الجزيرة، على غرار جمهوريات بيزا وجنوة وأراغون ومملكة فرنسا، وبين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر، كانت الجزيرة تحت سيطرة جنوة وانتمت إلى فرنسا منذ نهاية القرن الثامن عشر، وحققت كورسيكا استقلالها التام عن جنوة عام 1755 ثم احتلتها فرنسا عام 1769، وتتنوع ثقافة جزيرة كورسيكا بين الإيطالية والفرنسية. ولطالما اعتبرت جزيرة كورسيكا واحدةً من المناطق الإدارية التابعة لفرنسا، إلا أن وضعها الرسمي تغير عام 1991، من مجرد منطقة إلى جماعة إقليمية، مما أتاح لها قدرا أكبر من الاستقلالية.
انقسام النخب السياسية
وبعيدا عن التاريخ وبالعودة إلى الحاضر، عادت الشعب الكورسيكي ليطالب بالاستقلال عن فرنسا، ورفض كافة أشكال الوصاية من سلطات باريس، واحتل ذلك النقاش العام في الشارع الفرنسي، مما أحدث جدلا حادا وانقساما كبيرا في المواقف لدى النخب السياسية الفرنسية، لدرجة أنها تكاد تغطي على الزخم الكبير من النقاش الذي تحتله الأزمة الأوكرانية. فهل شجعت الأزمة الأوكرانية أهالي كورسيكا على الثورة من جديد والمطالبة بالاستقلال عن فرنسا؟
في إجابة عن هذا السؤال، أشار جان برنار فيرون -الخبير الإستراتيجي في العلاقات الدولية المدير السابق لمنطقة أفريقيا والشرق الأوسط في الوكالة الفرنسية للتنمية- إلى أنه لا يرى أي علاقة بين الأزمة الأوكرانية وأزمة جزيرة كورسيكا، “لأن هذه الجزيرة لم تتعرض للغزو، مثلما تعرضت أوكرانيا للغزو الروسي. بالإضافة إلى ذلك فإن كورسيكا تطالب من فترة طويلة بحكم ذاتي وفق شروط معينة، ولا تطالب بالاستقلال التام عن فرنسا”.
وأضاف قائلا -للجزيرة نت- إن “دفاع الشعب الأوكراني عن وطنه من الهجمة الشرسة والحرب الممنهجة المدمرة التي يتعرض لها من روسيا يختلف تماما عن سياق مطالبة الشعب الكورسيكي بالحكم الذاتي عن الدولة الأم، التي هي فرنسا؛ ولذلك، ليس هناك أي رابط أو عوامل مساعدة مشتركة بين القضيتين”.
شوكة في حلق فرنسا
يرى مراقبون أن هذه الأزمة، التي أخذت زخما كبيرا غطى حتى على الأزمة الأوكرانية، سيكون لها تأثير على الحملات الانتخابية واستطلاعات الرأي بالنسبة لمختلف المترشحين، وستكون شوكة في حلق فرنسا وماكرون وستنغص عليه أيامه الأخيرة في عهدته.
وأوضح الخبير الإستراتيجي في العلاقات الدولية أن هذه الأزمة لن تكون لها أي تأثيرات على مستقبل المترشحين للانتخابات الرئاسية، لأن زخم الأصوات في هذه الجزيرة قليل ولا يمثل قوة دفع وازنة. ومن ناحية أخرى، يمثل اقتراح وزير الداخلية جيرالد دارمانان بإمكانية منح فرنسا الحكم الذاتي لجزيرة كورسيكا، في حال توقفت الاحتجاجات وخفت حدة العنف، حلا عمليا لهذه الأزمة تتوثق من خلاله علاقة الجزيرة وشعبها بالدولة الأم فرنسا، وهذا ما سيجعل الجدل السياسي الحالي يتوقف.