تذكر لتكون فنانًا سوفيتيًا فالرغبة وحدها لا تكفي، نحتاج إلى الحماس، الصبر، الدقة، حب العمل، والوطنية، بدون ذلك لن تُنتاج أعمال عظيمة. الفن الدافئ لا يمكن أن يصبح متغطرسًا، يجب أن يصنع التقدم، ويمتلك أسلوبًا ناقدًا وصارمًا تجاه كل لمسة وكل عمل *إسحاق برودسكي، فنان من الحركة الواقعية الاشتراكية.
في بدايات القرن العشرين بدأ الفن الروسي المرور بحركة طليعية مميزة؛ إذ حقق الفنانون الروس تقدمًا مبهرًا في مجالات الرسم، والنحت، والمسرح، والسينما، والتصوير، والكتابة، والعمارة، وحين نستخدم لفظ «طليعية» أو المعروف باسم «avant-garde» فإننا نشير إلى حركة الثورة، والخروج عن المألوف، والقواعد، والبحث عن طرق جديدة للفن الواقعي، وفيما يخص روسيا لا يمكننا تحديد نمط أو طريقة محددة، فقد شملت الحركة الطليعية عدة أنماط للرسم، مثل التكعيبية، والمستقبلية، والتفوقية، والبنائية، والبدائية الجديدة.
لكن مع الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي، تنحت كافة أنماط الحركة الطليعية، وسيطر على المسرح حركة جديدة تتماشى مع الاتجاه الجديد للدولة، وتحت رعاية «الأخ الأكبر» (السلطة السوفيتية).
الواقعية الاشتراكية: الأخ الأكبر يوافق
بدأت حركة الواقعية الاشتراكية مع الثورة الشيوعية في 1917 واكتسبت شهرتها تحديدًا مع تولي جوزيف ستالين السلطة في 1924، ويوضح موقع «The art story» كيف أن حركة من أكثر الحركات المقيدة في التاريخ الثقافي للإنسان نشأت من إحدى أشهر الحركات الثقافية الثورية والديناميكية، الحركة الطليعية الروسية لقد انطلقت الحركة الطليعية الروسية لا تعبأ بالقواعد الفنية المتعارف عليها، وفتحت المجال أمام الإبداع، وتخطي الحدود المعهودة.
وفي البداية تقبلت الحكومة الشيوعية الحركة الطليعية، بل يمكن القول إنها شجعتها، فقد كانت الحكومة تواجه الحرب الأهلية التي استمرت من 1917 وحتى 1922، لذلك لم تهتم بالحركة الثقافية أو الرسائل المختلفة التي تنشرها الفنون، فيقول الفنان الطليعي نعوم جابو «في بداية الأمر كنا نعمل لدى الحكومة»، وقد قابلنا ليون تروتسكي – والذي كان من قادة الثورة البلشفية – عدة مرات؛ ما يوضح أن الحكومة الشيوعية في ذلك الوقت لم تمانع هذا الاتجاه الفني، بل دعمته.
تمثال رأس رقم 2 (مثال على البنائية) – نعوم جابو
إلا أنه مع تولي ستالين السلطة تغير الحال، وبدأت الحكومة بقمع حرية الفكر والتعبير، واختارت حينها حركة واحدة فقط لتدعمها، وهي بالطبع حركة الواقعية الاشتراكية، ولم تكن الحركات الفنية تدعم عادة من قبل الحكومات لتظهر للنور، بل في الواقع أغلب الحركات الفنية التي جاءت بعد حراك اجتماعي أو تغيرات اجتماعية، فرضت نفسها بنفسها وكأنها هي الأخرى تثور على ما سبقها، لترسي قواعد وأسس جديدة للفن.
لكن ما حدث أن ستالين وجد أن هذه الحركة ستخدم قضيته وستكون وسيلة ممتازة لنشر الفكر الشيوعي، وقد شعر ستالين أن الفن يجب أن يخدم هدفًا، وكان هذا الهدف هو تصوير روسيا الشيوعية بصورة إيجابية وتوضيح نجاحات الثورة وانعكاسها على الشعب الروسي «السعيد والمنتج». وصف ستالين الفنانين بأنهم «مهندسو الروح» معلنًا أن الفن يجب أن يكون «وطني الهيئة» و«اشتراكي المحتوى»، وببساطة شديدة كتب ستالين «على الفن في روسيا أن يكون أداة بروباجندا».
لوحة محادثة لينين وستالين – بيوتور فاسيليف، المصدر: soviet-art.
في 1922 تم تأسيس جمعية فناني روسية الثورية، كأولى المؤسسات السوفيتية لإنتاج الأعمال الفنية، كلها تصور الحياة اليومية للطبقة العاملة في روسيا الثورية، مثلها مثل باقي الحركات الواقعية التي رسمت حياة الطبقة العاملة، لكن الفرق أن هذه الحركات الواقعية عادة ما رسمت الطبقة العاملة وهي تعاني، في روسيا الثورية الطبقة العاملة كانت سعيدة؛ لأنها تعمل من أجل تقدم الوطن وازدهاره، أو هكذا تم تصويرها.
تم رسم جنود الجيش الأحمر، والشباب الثوري، وعمال المدينة، وفلاحين الضاحية، كلها شخصيات يمكن أن يشعر المواطن الروسي أنه يعرفها، قريبة منه ويراها كل يوم، ووفقًا للإعلان الخاص بهذه الجمعية فلقد حددت واجبها أنه «واجبنا المدني للبشرية هو تحديد الدافع الثوري خلف هذه اللحظة التاريخية العظيمة فنيًا ووثائقيًا. سنصور الحياة اليومية: حياة الجيش الأحمر، والعمال، والفلاحين، والثوار، كلهم أبطال العمل. سنقدم صورة حقيقية للأحداث وليس التلفيقات المجردة التي تشوه سمعة الثورة في وجه البروليتاريا العالمية».
وقد أوضحت الحركة أنه «من خلال الاعتراف بالاستمرارية في الفن، وبوضع أنفسنا وفقًا للنظرة العالمية المعاصرة، فإننا نخلق هذا النمط من الواقعية البطولية، ونضع أسس البناء العالمي للفن المستقبلي، فن بدون طبقية»، وقد ظهرت بعد ذلك جمعيات فنية أخرى في فترات متفاوتة مثل «مجتمع رسامي حامل اللوحات» و«اتحاد رسامي الاتحاد السوفيتي»، كل منها مهتم بتطوير أسلوب الحركة الواقعية الاشتراكية.
لوحة راحة بعد المعركة – يوري نيبرينتسيف، المصدر:russianartdealer
وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات والمجتمعات الفنية خضعت للرقابة والسيطرة من قبل الحكومة، إلا أن هذا لم ينف عنها أنها ضمت مجموعة من الفنانين المهرة والموهوبين، والذين آمنوا بضرورة وأهمية فنهم، والدور الذي يلعبه لمساعدة الثورة والاتحاد السوفيتي فيما بعد، مثل يوري بيمينوف وإسحاق برودسكي وغيرهم من المبدعين الذين أنتجوا أعمالًا بعيدًا عن الجانب السياسي شهد لها النقاد بجمالها.
مبادئ الحركة: عندما تتدخل الدولة
بسبب أهمية هذه الحركة في ذلك الوقت للنظام السوفيتي، فقد وضعت مبادئها الدولة لضمان مساعدة هذه الحركة لها ونشرها للمبادئ «السليمة»، ووفقًا لموقع «The art story» أنه «يجب أن تكون الواقعية الاشتراكية متفائلة الروح، وواقعية في الأسلوب، وبديهيًا تدعم القضية السوفيتية». عادة ما صورت الأعمال «بطل من أبطال» الدولة الجديدة، سواء كان هذا البطل من رموز الدولة المشهورة أو – وهو الأكثر – أعضاء المجتمع العامل السعيدة، ويمكن عرض النقاط المهمة التي وضعها الموقع باعتبارها أهم العناصر التي قامت عليها المدرسة في:
لوحة زفاف في شارع الغد – يوري بيمينوف، المصدر: soviet-art./
التفاؤل: وهنا اختلفت الواقعية الاشتراكية عن الواقعية الاجتماعية، فالواقعية الاجتماعية اهتمت بنقد المجتمع وإظهار الجوانب السلبية، خصوصًا أن هذه الحركة ازدهرت في الفترة بين الحربين العالميتين، وهي فترة صعبة عانت فيها طبقات المجتمع المختلفة واهتمت الحركة برسم هذه المعاناة ونقلها، أما الواقعية الاشتراكية، فلم تعر أي اهتمام للصعوبات التي عانى منها المجتمع السوفيتي تحت حكم ستالين، أو الاتحاد السوفيتي عمومًا، بل جرى التركيز على خطط ستالين الخمسية الشهيرة ورسم الجموع العاملة بوجوه سعيدة، وهي تكتب غدًا جديدًا لروسيا جديدة، وعالمًا جديدًا.
لوحة الخبز – تاتانيا يابلونسكايا، المصدر: soviet-art.r
الواقعية: لتحقيق الأثر الأكبر في الجماهير، وخصوصًا أن أغلب الجماهير لم تكن من الصفوة، كان لابد أن تعتمد المدرسة على الواقعية. رسومات التكعيبية، أو البنائية، أو معظم ما كانت تقدمه الحركة الطليعية، ظن ستالين أنها نخبوية، ولن تمس الشعب، على عكس لوحة يوجد فيها مزارع سعيد وهو يحصد المحصول، أو عامل مجتهد في مصنعه، مثل هذه اللوحات ستشجع المواطن العادي وتحثه على العمل والإنتاج، بحسب رؤية هذه المدرسة.
لوحة ستالين في الكرملين – إسحاق برودسكي – المصدر: soviet-art.ru
رمزية البطل: اتخذت لوحات الواقعية الاشتراكية رموزًا من الشعب في معظم الأحيان، فاشتهرت لوحات تصور شخصيات من المجتمع وهي تمارس دورها بإتقان واجتهاد، لتصبح رموزًا يقتضى بها. كذلك صورت اللوحات رموز الدولة في هيئة الأبطال الذين يحمون الاتحاد السوفيتي ضد الغرب وأجنداته و«مؤامرته»، بحسب الرواية الرسمية السوفيتية.
لوحة لينين وسط فلاحي قرية شوشينسكوي – فاسيلي باسوف المصدر: soviet-art.
دعم الدولة: كما ذكرنا مسبقًا فإن ستالين كان يؤمن أن الفنان هو مهندس الروح، وأن الفن يجب أن يتسم بالوطنية، وبحلول ثلاثينات القرن العشرين امتلأت المؤسسات والمعارض والمتاحف بلوحات سياسية من بطولة «أبطال» الاتحاد السوفيتي لينين وستالين، وعلى الرغم من أن الدعاية والبروباجندا للرموز كانت واضحة، إلا أن الدعاية والبروباجندا كانت مستترة فيما يخص الاشتراكية بلوحات عادية لا تمت للسياسة بصلة، لكنها تحمل في طياتها رسائل خفية.
في النهاية يمكن القول إنه على الرغم من أن هذه الحركة الفنية يمكن اعتبارها من أكثر الحركات المقيدة، إلا أن هذه القيود لم تقف عائقًا أمام الفنانين الذين نجحوا في رسم لوحات خلدها التاريخ، وثقت فترة مهمة في تاريخ العالم وحركة سياسية كانت قطبًا من أقطاب السياسة العالمية، فلا يسعنا سوى أن نرفع القبعة للفنان «مهندس الروح».
علامات
اشتراكية, اشتراكية واقعية, الاتحاد السوفيتي, الثورة البلشفية, الحركة الطليعية, الشيوعية, روسيا, ستالين, فنون, لوحات, لينين, مدارس فنية