رمضان في العراق.. سحر التقاليد الراسخة والعادات الأصيلة
“وكنا سمعنا أن هواء بغداد يُنبت السرور في القلب، ويبعث النفس دائما على الانبساط والأُنس، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طربا، وإن كان نازح الدار مغتربا، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور، وهو على مرحلة منها، فلما نفحتنا نوافح هوائها، ونفعنا الغلة ببرد مائها، أحسسنا من نفوسنا، على حال وحشة الاغتراب، دواعي من الإطراب، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب، وهبت بنا محركات من الإطراب، أذكرتنا معاهد الأحباب، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن، فكيف للوافد فيها على أهلٍ وسكن! سقى الله باب الطاق صوب غمامةٍ … ورد إلى الأوطان كـل غـريب”
(ابن جبير، “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار – رحلة ابن جبير”)
عُرفت باسم بلاد الرافدين، وامتد تاريخها لأكثر من عشرة آلاف عام، فعلى ضفاف نهرَيْ دجلة والفرات نشأت أعظم الحضارات وأقدمها. في العراق ابتكر الإنسان العجلة والكتابة، وسعى لتحقيق العدالة عبر أول قانون، وفيها أيضا ازدهرت الحضارة الإسلامية خاصة في العصر العباسي، ولذلك لا يزال رمضان في العراق يحمل دهشة لا مثيل لها.
على الرغم من غلاء الأسعار في الأسواق العراقية في الوقت الحالي، فإنها لا تزال تزدحم بالرواد، الذين يتجهون إليها منذ بداية شهر رمضان استعدادا للشهر الكريم. وتظل الأسواق مزدحمة طوال الشهر، ومن أشهرها سوق المنصور، وسوق الشورجة، الذي يضم عددا من الأسواق الأخرى الفرعية مثل سوق الخضار وسوق البهارات والحلويات، بالإضافة إلى صنابير المياه العمومية، التي يلجأ إليها المارة لرش المياه الباردة على وجوههم للتخفُّف من حرارة الجو أثناء الصيام، حيث تحمل أزقة وشوارع الأسواق روائح الشهر الفضيل وتقاليده المتوارثة.
المائدة العراقية في رمضان.. وأول كتاب طبخ في العالم
وما دمنا نتحدث عن رمضان وطقوسه، فلا بد أن يأخذنا الحديث إلى المطبخ العراقي العامر بمختلف الأصناف والأطباق التي تعود أصولها إلى آلاف السنين، ولا عجب في ذلك، إذ إن بلاد الرافدين قدَّمت للعالم أقدم وصفات الطبخ، حيث عُثر في أرشيف جامعة “ييل” (Yale) في الولايات المتحدة الأميركية على ثلاثة ألواح كتابة مسمارية قديمة، يعود تاريخها إلى عام 1750 قبل الميلاد وتوضح مجموعة كبيرة من وصفات الطعام، بعضها لا يزال حيا حتى اليوم في المطبخ العراقي مثل التشريب وخبز العروك، واعتُبرت هذه الألواح أقدم كتاب طهي في العالم.
وقد استضافت أراضي العراق مجموعة من أعرق الحضارات الإنسانية كالسومرية والبابلية والآشورية، كما ازدهر المطبخ العراقي أيضا خلال العصر الإسلامي، وخاصة في العصر العباسي حيث كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية. انعكس ذلك على الأطباق العراقية، التي تأثرت أيضا بثقافات وتقاليد الطهي المستمدة من ثقافات مجاورة مثل المطبخ التركي والإيراني والسوري.
وربما يكون أول ما يلفت الأنظار على موائد الإفطار في البيوت العراقية هو تنوع وتعدد الأطباق، حيث يحرص الأهل والجيران على تبادل أطباق الطعام التي يعدونها، وترسل كل أسرة أطباقا متنوعة من إفطارها إلى أسرة الجيران أو الأقارب، وهكذا تتجمع مختلف الأصناف على كل مائدة في كل بيت، وهي عادة قديمة متوارثة يحرص الجميع عليها حتى اليوم لأثرها الطيب على تقوية العلاقات بين الأُسَر وبعضها.
لا تقتصر هذه العادة على البيوت فقط، حيث يحرص الكثير من المصلين على حمل طعام الإفطار المُعَد في بيوتهم إلى المسجد، بحيث يتجمع المصلون عقب أذان المغرب للإفطار معا في مائدة جماعية نسجتها أطباق متعددة صُنعت بأيدي الكرم والمحبة المتبادلة.
ويعتمد المطبخ العراقي بدرجة كبيرة على الحبوب واللحم والأصناف التي تتطلب الطهي البطيء، كما تتصدر مائدة الإفطار أطباق الحساء وخاصة حساء العدس. ومن أشهر الأطباق العراقية “سمك المسكوف”، أو “سمچ مسگوف” كما يسمى بالعامية العراقية، وهو من أطباق الأسماك المطهوة ببطء، وهو من أقدم الأطباق العراقية، حيث عثرت إحدى بعثات الآثار الإيطالية على إناء يُقدَّر عمره بأكثر من 4500 سنة به بقايا عظام أسماك تدل آثارها على أنها طُهيت بطريقة تُشابه الطريقة الحالية لإعداد المسكوف. وأصل التسمية جاء من كلمة سقفَ أي صفَّ الخشب أو الحطب على شكل سقف لشيّ السمك، حيث تُشَق السمكة من جهة الظهر حتى رأسها، وتُنظَّف من أحشائها وتُثبَّت في أوتاد من الخشب الرفيع أو الحديد لتعليقها للشوي، وتُشوى على مسافة من النار، كي يُطهى على مهل وذلك ما يمنحه طعمه المميز. وبعد نضجها من الداخل، ترفع من الأوتاد وتوضع على جمر الخشب كي يُشوى الجلد الخارجي.
ومن الأطباق العراقية المميزة أيضا أطباق الخضراوات المحشوة المعروفة باسم الدولمة أو المحشي، وهي من الأطباق المنتشرة في مختلف الدول العربية، ويقال إن أصولها تعود إلى المطبخ التركي. وتُحشى الخضراوات بالأرز المتبل بالبهارات العراقية والمخلوط باللحم المفروم وصلصة الطماطم، وتوضع في إناء عميق محكم الإغلاق مع وضع أضلاع الغنم في قاع القدر وتركها تُطهى على نار هادئة.
تتنوع طرق تقديم الدولمة بتنوع المحافظات والبلدان العراقية المختلفة، فتُضيف إليها المحافظات الشمالية المزيد من معجون الطماطم لتحمل لونا أحمر، وتميل محافظات الوسط والجنوب إلى أن تُقدِّمها متبلة ببهارات حارة ويميل لونها إلى الصفرة، فتجد أطباق الدولمة التركمانية والكركوكية والبغدادية والموصلية وغيرها.
أما محافظة الأنبار فتشتهر بطبق مميز هو “الدليمية”، وتأتي التسمية نسبة إلى قبائل دليم، وتتكون “الدليمية” من كمية كبيرة من أرز العنبر المخلوط بالمكسرات فوق طبقة من الخبز المغمور في مرق اللحم، وتُزيَّن من الأعلى بقطع من لحم الغنم.
ومن بين الأكلات العراقية الشهيرة التي تُطهى خاصة في المناسبات والولائم، وهي من الأطباق المميزة عند تجمع العائلات لولائم الإفطار في شهر رمضان، طبق القوزي أو الأوزي، وهو عبارة عن لحم خروف مشوي ينضج على مهل حتى إنه قد يستغرق ما يقرب من يوم كامل في طهيه، ويُحشى بالأرز المتبل بالملح والفلفل الأبيض والأسود وورق الغار والقرفة، ويُزيَّن بالمكسرات مثل الصنوبر واللوز والكاجو.
ومن أطباق اللحوم العراقية الفريدة كذلك طبق كباب أربيل، ويمتاز عن غيره بوجود نسبة كبيرة من الدهون، مما يجعله يمتاز بهشاشته، ويُطهى على نار سريعة وعالية كي يحتفظ بقوامه ولا يتساقط عن السيخ. وتُفضِّل بعض الأُسَر تناول طبق الباجة الموصلية، والباجة باللهجة العراقية هي رأس الخروف أو العجل، والأقدام التي تُعرف في بلاد عربية أخرى بالكوارع أو المقادم أو الكراعين وغيرها من الأسماء، وتُقدَّم مع المرق والخبز.
وللحلوى مكانة خاصة بين العراقيين، حيث يتفنَّنون في إعدادها سواء في المنازل أو في محلات الحلويات الشهيرة، ومن أشهر أطباق الحلوى الرمضانية في العراق حلاوة التمر التي تصنعها أغلب العائلات استعدادا للشهر الفضيل، وتتكون من مزيج من التمر والسمن، وقد يضاف إليها جوز الهند واللوز وحبوب الينسون. وهناك كذلك طبق “من السما”، وتُصنع من مادة المن، وهي عبارة عن مادة دبقة تُجمع من الأشجار في منطقة جبال بنجوين في السليمانية بشمال العراق، وبعد جمعها تُذاب في المياه المغلية ويُضاف إليها المكسرات وحب الهال. هذا بالإضافة إلى أطباق الشعرية والبرمة وزنود الست والبقلاوة والزلابية التي يتفنَّن العراقيون في إعدادها خلال أيام شهر رمضان.
مشروبات رمضان.. وألعابه
بالمثل، تحتل المشروبات مكانة كبيرة على مائدة الإفطار العراقية، ولعل أكثرها شهرة وتميزا عصير الزبيب الذي يُعرف باسم شربات الزبيب، ويشهد إقبالا كبيرا من الصائمين الذين يتزاحمون على دكاكين بيعه في رمضان، حيث يمد الجسم بحاجته من السوائل والسكر بعد ساعات الصيام الطويلة.
ومن المشروبات الشهيرة في العراق أيضا شراب “النومي بصرة”، وتعود التسمية إلى ارتباطه بمدينة البصرة حيث كان يُستورد من الصومال وبعض الدول الأخرى عن طريق موانئ مدينة البصرة، وهكذا حمل اسمها. ويُصنع من النومي أو اللومي أو الليمون الأسود المجفف، حيث يُنقع بطريقة خاصة مع الماء والسكر، ثم يُصفَّى ويُباع في زجاجات. وإلى جانب شربات الزبيب والنومي بصرة، تحمل المائدة الرمضانية عصائر أخرى مثل عصير الرمان وعصير التمر الهندي.
وبعد الإفطار وصلاة التراويح يمتد وقت السمر وجلسات الشاي أو “الجاي”، حيث ترص استكانات الشاي المميزة على الصينية أو “السماور” مع دورق الشاي الذي يسمى “قوري” وقارورة السكر التي تُعرف باسم “شكردان”. يعود تقليد شرب الشاي بهذه الطريقة إلى فترة الاحتلال الإنجليزي، ويقال إن أصل تسمية “الاستكان” أو الأكواب المميزة لشرب الشاي تعود إلى تسمية إنجليزية من 3 مقاطع هي “east tea can”، وتعني إناء الشاي الشرقي تمييزا له عن فناجين الشاي التي اعتاد الإنجليز استعمالها. ويعد الشاي بالطريقة التقليدية على الفحم ببطء، ويسمى “تخدير الشاي” أي غليه على مهل، ويُغلى مع حبوب الهيل.
وفي رمضان تحلو ليالي السهر والسمر، وقديما اعتاد الناس في العراق على سماع حكايات الحكواتي التقليدي الذي يُعرَف في العراق باسم “القصخون”، حيث اعتاد الجلوس على المقاهي، ليتحلَّق حوله الناس للاستماع إلى قصصه مع تناول الشاي، وهو يروي أشهر الحكايات مثل العنترية، و”المياسة والمقداد”، وحكاية مريم الزنارية، والسيرة الهلالية، وغيرها. لكن مع مرور الزمن وظهور وسائل التسلية الحديثة كالراديو والتلفاز، اختفى القصخون، وإن ظهرت بعض محاولات استعادته في إطار استعادة تقاليد التراث القديمة في ليالي رمضان.
وتشهد ليالي رمضان في العراق مجموعة من الألعاب التقليدية الجماعية أشهرها لعبة المحيبس وتعني “الخاتم”، وهي من أقدم الألعاب التقليدية المتوارثة، حيث يتنافس فيها فريقان، يقوم أحد أفراد الفريق الأول بإخفاء الخاتم أو المحيبس في كفه، وعلى الفريق الآخر اكتشاف هذا الشخص، مع ترديد الأهازيج مثل المربعات والجالغي البغدادي لتشجيع اللاعبين. ويحصل الفريق الفائز على أشهى الحلويات العراقية مثل زنود الست والبقلاوة التي يشتريها الفريق الخاسر، وقد شكَّلت رابطة خاصة باللعب وتأسست فِرَق شعبية لها مما منحها حضورا قويا في ليالي رمضان.
كما تشتهر مدينة كركوك بلعبة شعبية أخرى هي لعبة الصينية التي يتخللها الغناء سواء بالعربية أو الكردية، ويتنافس فيها فريقان كلٌّ منهما يتألف من 3 لاعبين، والهدف هو العثور على نرد مخفي أسفل فنجان نحاسي ضمن مجموعة من الفناجين الموضوعة في إناء كبير يسمى الصينية، ويفوز الفريق الذي يتمكَّن من العثور على النرد بعد أن يبحث في أقل عدد من الفناجين.
المسحرجي.. سحور سحور سحور
ومثل الكثير من الدول العربية، يستيقظ العراقيون في الليل على نداءات المسحراتي لتناول السحور، ويُعرف في العراق بالمسحرجي، أو أبو طبل أو أبو دمام، وقد اعتاد المسحرجي في العراق على أن يحمل طبلة ضخمة تُعلَّق على إحدى كتفيه ويدق عليها مناديا: “سحور سحور سحور”. لكن اليوم لم يعد الأمر يقتصر على مسحرجي يجوب الشوارع وحيدا مع طبلته، وإنما صار أشبه بفرقة صغيرة حيث يجوب الشوارع عدد من الأفراد، ولأن أهل العراق هم أهل الكرم فعادة ما يستقبلون المسحرجي بواجب الضيافة ويشاركونه وجبة السحور.
مع قدوم منتصف شهر رمضان تتردد أنشودة “ما جينه يا ما جينه، حلي الكيس وأعطينا، تعطونا لو نعطيكم، لبيت مكة نوديكم، ربي العالي يخليكم، تعطونا كل ما جينا، الله يخلي راعي البيت، آمين، بجاه الله وإسماعيل، آمين”. الماجينا عادة رمضانية يمارسها الأطفال في العراق، ويمارسها الأطفال في دول عربية أخرى بأسماء أخرى، فيُطلَق عليها في الإمارات حق الليلة، وفي قطر تُعرف بالقرنقعوه، وفي البحرين القرقاعون، وتُعرف في الكويت والسعودية بالقرقيعان، أما في عمان فيُطلق عليها الطلبة.
ويدور الأطفال في الشوارع يُنشدون هذه الأغنية ويوزع عليهم الكبار الحلوى، ويقال عن أصلها إنه يعود إلى الاحتفال بولادة الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه وزَّع الحلوى على الأطفال احتفالا بهذه المناسبة. ويطوف الأطفال في ليالي 13 و14 و15 من رمضان يرددون الأهازيج ويرتدون الملابس الشعبية ويجمعون المكسرات والحلوى من بيوت الجيران والأهل.
وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان، تبدأ البيوت في التزيُّن استعدادا لاستقبال عيد الفطر المبارك، وتصنع ربات البيوت أنواع الحلويات الخاصة بالعيد، وأشهرها الكليجة، وهي واحدة من أشهر أنواع المعجنات التي توارث أهل العراق صنعها، حتى إن ابن بطوطة الذي توفي عام 779هـ كان قد ذكرها في كتابه الشهير “تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، في وصف مائدة أمير خوارزمي قائلا: “الدجاج المشوي والكراكي وأفراخ الحمام، وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا، والكعك والحلوى”، وتُصنع الكليجة من الدقيق والسمن والسكر، وتُحشى بالتمر مع الهيل وماء الورد، أو السمسم والمكسرات.
في العراق، وكل دولنا العربية، يحاول الناس يوما بعد يوم أن يتكيفوا مع الواقع السياسي والاجتماعي المتغير، ومع القيود الاقتصادية المتزايدة، لكن يبقى رمضان في العراق مع ذلك حيا بتقاليده الراسخة وعاداته الأصيلة.