سوريا ولبنان.. سحر رمضان في بلاد الشام

“حيوا أهل الشام يا أهل الله.. صابرة وهشام وما شا الله

كلهم قد صام وقد صلى.. يا أبو زيد الخيل متقلقشي

كلهم قد نام مؤدي الفرض.. تحت هذا الليل وهذي الأرض”(*)

ما بين الأذان الجماعي في الجامع الأموي بقلب العاصمة السورية دمشق، وخروج الجموع إلى شواطئ بيروت لاستقبال الشهر الفضيل، رسمت التقاليد المتوارثة صورة مفعمة بالبهجة للشهر الكريم، تدغدغ الحواس جميعها، وتتعانق فيها أصوات التواشيح مع روائح المخبوزات. ورغم ما تعانيه بلاد الشام اليوم من مآسٍ سياسية واقتصادية، فإن شهر رمضان لا يزال يأتي ببهجته وحضوره القوي. ورغم تراجع العديد من العادات الرمضانية المتوارثة في ظل العيش على مدار سنوات بين مطرقة الحرب وسندان الاختناق الاقتصادي وضيق الحال، فإن الكثير من العائلات الشامية لا تزال تحاول التمسك بأذيال بهجة رمضان القديمة، عسى أن تستعيد بعضا منها.

رمضان في سوريا

رغم مرور سنوات من العيش تحت وابل القصف اليومي، محاطين بأخبار الموت والدمار، ورغم فراق الأحبة وغيابهم، لا يزال رمضان في سوريا يحمل بهجة لا يخطئها القلب. وأول ما يظهر من طعم رمضان، يكون في الأسواق القديمة: من سوق الجزماتية إلى الحميدية ومنه إلى باب توما، حيث تختلط روائح الجلاب والتمر وعرق السوس بروائح المعروك والناعم والبقلاوة، وتداعب الأذن أصوات الباعة بنداءات موروثة جيلا بعد جيل، أشبه بترانيم تحفظ ما بقي من حنين للأيام الطيبة.

لا يمكن الحديث عن رمضان في سوريا دون المرور بالجامع الأموي وساحته. يقع الجامع في قلب دمشق القديمة، وقد أسسه الوليد بن عبد الملك في عهد الدولة الأموية، وأراده أن يكون أهم مسجد في عاصمة خلافته دمشق. له أربعة أبواب، باب البريد من الغرب، وباب جيرون من الشرق، وباب الكلاسة من الشمال، وباب الزيادة من الجنوب، وبه أربعة محاريب للمذاهب الأربعة تزدان بأبدع فنون الرخام والفسيفساء والنوافذ الزجاجية الملونة. أما فناؤه فيضم 25 بابا تفتح مباشرة على أبواب الحرم.

ويتميز المسجد الأموي بعدد من التقاليد الرمضانية التي لا تزال ثابتة حتى اليوم، من أهمها الأذان الجماعي، وهو تقليد يعود إلى عهد الفقيه “عبد الغني النابلسي” قبل نحو 300 عام، حيث ابتكر النابلسي هذه الطريقة لإيصال الصوت إلى مسافة أكبر نظرا لعدم وجود مكبرات الصوت في ذلك الزمن.

وللأذان الجماعي في الجامع الأموي سبعة مقامات، يؤدى كل منها في يوم من أيام الأسبوع، وهي على الترتيب من السبت إلى الجمعة: الصبا، البيات، النوى، السيكاه، العراق، الحجاز، الرصد.

في رمضان أيضا، تزدحم الشوارع والأسواق في سوريا بالمقبلين على شراء مختلف أنواع الأطعمة والمشروبات المرتبطة بالشهر الفضيل، ورغم اقتصار بعض الأسر على شراء الضروريات بسبب ضيق الظروف الاقتصادية، تظل المائدة الرمضانية السورية محتفظة بتميزها بمجموعة من الأصناف المميزة.

من المعروك.. إلى بائع العرقسوس

“طيب يا معروك.. طازة يا معروك.. أكل الملوك يا معروك”، هكذا ينادي الباعة المتجولون على أقراص المعروك الشهية في الأسواق والشوارع السورية. يرتبط المعروك بشهر رمضان ارتباطا قويا ووثيقا، حتى إن البعض يطلق عليه اسم “خبز رمضان”. يتكون عجين المعروك من الطحين مع إضافة الزيت والقليل من السكر والسمن والماء، وبعد أن يُعجن العجين ويختمر يُفرَد على صاج ويُخبز في الفرن.

هناك أنواع مختلفة من المعروك بعضها مستحدث، مثل المعروك الملوكي الذي يضاف إليه الزبيب وجوز الهند وماء الزهر، أو المعروك بالشيكولاتة أو بالعجوة. وتكثف الأفران صناعة المعروك في رمضان، حتى إن بعضها يتوقف عن تقديم الأصناف الأخرى ويقتصر على بيع المعروك فقط. وقيل إن الأصل في التسمية هو لفظة “عرك”، وتعني العجن القوي باليد، حيث كان يُعجن باليد قديما قبل استحداث ماكينات العجن الآلية.

ومن أبرز أكلات رمضان في الشام أيضا “الناعم”، والذي يُعتقد أن أصله يعود إلى دمشق. وهو مزيج من الطحين والماء والزيت، يُعجن على شكل أرغفة ويُجفف في الشمس، حيث يجهز قبل شهر رمضان بعدة أسابيع ويقلى في الزيت المغلي يوما بيومه ليتخذ ما يُعرف بلون “جناح الدبور”، ثم يصفى، وبعد أن يبرد يُزيَّن بدبس العنب أو دبس التمر باستخدام ملعقة خشبية ضخمة. هذا بالإضافة إلى مختلف أنواع الحلوى التي يتفنن السوريون في إعدادها حول العالم مثل النمورة والبقلاوة وغيرها. ولا يمكن تخيل المائدة السورية دون وجود أطباق مثل الفتوش والتبولة والكبة وشوربة العدس وفتة الحمص والصنوبر.

ولا تخلو الموائد السورية من المشروبات الرمضانية التقليدية المدهشة، مثل  العرقسوس والتمر الهندي، وهما من المشروبات التقليدية التي عرفتها بلاد الشام في زمن العثمانيين، ولا يزال باعة التمر الهندي والعرقسوس يدورون في شوارع الأسواق التقليدية السورية بملابسهم التقليدية وأباريقهم النحاسية الضخمة، يحملونها على أكتافهم مع صاجات نحاسية يدقون بها لجذب زبائنهم.

وبالإضافة إلى التمر والعرقسوس، يتناول أهل سوريا أيضا شراب التوت، والذي يباع مُركّزا في الأسواق، ويُخفّف بالماء البارد قبل تقديمه. إضافة إلى الجلاب والذي يصنع من دبس التمر أو دبس الزبيب المضاف له السكر والليمون وماء الورد.

ومن بين التقاليد السورية الكريمة أيضا تقليد يسمى “السكبة”، ويعني تبادل الأطعمة بين الجيران قبل أذان المغرب. ما زالت أغلب الأسر السورية تحرص على هذا التقليد، حتى لو قلّت كميات السكبة أو استُبدلت في بعض الأحيان بأطعمة بسيطة وأقل تكلفة، أو حتى بقطع من السكاكر والحلوى.

ومن بين العادات الكريمة أيضا في سوريا والتي ما تزال منتشرة، خاصة في المدن الصغيرة والريفية، أن يقف صاحب الدار أمام منزله وقت الإفطار منتظرا مرور أي شخص لدعوته إلى مائدته.

المدفع والمسحراتي.. تقاليد رمضانية عابرة للحدود

“سبت شغلي وجيت أسحركم

دق قلبي في بيت مسافركم.. مت ما استنيت لآخركم

يا تجار الزيت بخاطركم.. شاعر حداد حيخبركم

إن اسمي جهاد بدمعاتي.. اسمي الاستشهاد في طلعاتي

كنت رد بلال على المادنة.. يا أبو زيد هلال ورمَّضنا”(*)

في كتابه “المدخل”، يتناول ابن الحاج المالكي، المتوفى عام 737هـ، اختلاف وتنوع مظاهر المسحراتي في مختلف الأقطار العربية، فيقول:”التسحير اختلفت فيه عوائد الأقاليم…، ألا ترى أن التسحير في الديار المصرية بالجامع يقول المؤذنون: تسحّروا، كلوا واشربوا، وما أشبه ذلك على ما هو معلوم من أقوالهم…، وأهل اليمن وبعض أهل المغرب يسحرون بدقّ الأبواب على أصحاب البيوت…، وأما أهل الشام فإنهم يسحرون بدقّ الطّار (الدُّف) وضرْب الشَّبّابَة (مزمار خشبي)”.

وهكذا يدور المسحراتي بطبلته التقليدية ونداءاته في شوارع سوريا. كما يُعرف أيضا في سوريا تقليد إطلاق المدفع، رغم غياب صوته بين أصوات قذائف المدافع والقصف اليومي الحزين، وتوقفه لسنوات وإن بدأ يعود في السنوات الأخيرة. وعادة ما كان الأطفال ينتظرون إطلاق المدفع وأذان الإفطار بأهازيج مثل: “يا شمسية رمضان عجلي لي بالأذان.. بطني لزقت بظهري ما تم غير العظام”، و”ريت ذقنك طولها.. وإن كنت ما بتقولها.. تُوقع من فوق المئذنة”، وكذلك “طاطا يا طاطا.. صحن السلطة.. كبة على رغيف.. صاحوا يا لطيف.. علق ضو.. انطفا ضو.. صاح المدفع بو.. بقلب العدو”

لبنان.. رمضان الكرم رغم الأزمة الاقتصادية

“حيوا أهل الشام يا أهل الله.. صابرة وهشام وما شا الله

كلهم قد صام وقد صلى.. يا أبو زيد الخيل متقلقشي

كلهم قد نام مؤدي الفرض.. تحت هذا الليل وهذي الأرض

قالوا للأحلام متقلقشي.. إن يكن أو كان ندى البلبل

في شجر لبنان معنقدشي”(*)

رغم الأزمة الاقتصادية الساحقة التي يعاني منها أهالي لبنان، فإن مظاهر الشهر الفضيل وتقاليده ما زالت تتجدد في الشوارع وعلى الموائد اللبنانية الطيبة. قديما كانت عملية إثبات رؤية هلال شهر رمضان المبارك في لبنان تتم من خلال شخص موثوق يدعى الميقاتي، وكان لكل مدينة الميقاتي الخاص بها والذي يتولى مسؤولية إثبات هلال رمضان وهلال شوال، لكن هذه العادة اندثرت وأصبحت دار الإفتاء هي من تتولى هذه المسؤولية.

دعونا نبدأ من بيروت، وتحديدا من “سيبانة رمضان”، وهي واحدة من أقدم عادات أهل بيروت في رمضان، حيث تخرج الجموع من أهالي المدينة إلى شاطئ بيروت لتناول أطيب الأطعمة والمشروبات في اليوم الأخير من شعبان قبل بدء الشهر الفضيل وانقطاع الصائمين عن تناول الطعام والشراب. والبعض يرد أصل هذه العادة لاستهلال أو “استبانة” شهر رمضان، والتي حُرّفت في العامية إلى “سيبانة”.

وفي لبنان -كغيره من الدول العربية- لا يأتي رمضان دون المسحراتي الذي يدور في الشوارع والأزقة بطبلته الصغيرة المشدودة منشدا: “يا ناس قوموا على سحوركم.. جاء رمضان ليزوركم”، وكذلك مدفع رمضان، وهي العادة التي انقطعت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لكن لحسن الحظ بعد انتهاء الحرب عاد تقليد مدفع رمضان، والذي يتولى الجيش اللبناني مهمة إطلاقه، حيث تُطلق 3 طلقات عند ثبوت رؤية هلال شهر رمضان، وثلاث أُخَر عند ثبوت هلال شوال احتفالا بعيد الفطر المبارك، وتُطلق قذيفة واحدة في موعد الإفطار وأخرى في موعد الفجر طوال أيام وليالي رمضان.

أما مدينة طرابلس فلها تقاليد خاصة تختلف عن بقية المدن اللبنانية، وهو ما جعلها تُعرف بلقب عاصمة رمضان. حيث تدور فرق الصوفية في شوارع المدينة قبل حلول الشهر الكريم، مرددين الأناشيد والابتهالات والمدائح النبوية، وذلك لتهنئة أهل المدينة وتجهيزهم وإعدادهم لاستقبال الشهر المبارك، بالإضافة إلى جوقة وداع رمضان، حيث يدور المنشدون في العشر الأواخر من الشهر الفضيل بشوارع طرابلس يهللون وينشدون الموشحات الدينية.

كما يزور أهل طرابلس الأثر النبوي في جامع المنصوري الكبير، وهو عبارة عن شعرة من لحية الرسول -صلى الله عليه وسلم- محفوظة داخل أنبوب زجاجي، معلقة ومثبتة بالشمع الأحمر المغلف بالعسل والعنبر، ومغلقة بهلال ذهبي. ويزدحم المسجد خاصة في آخر يوم جمعة من شهر رمضان، عقب صلاة فجر يوم الجمعة، وعقب صلاة الجمعة مباشرة. ويروى أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد أهدى هذا الأثر إلى طرابلس.

وفي صيدا، يحافظ الأهالي على عادة وتقاليد فوانيس رمضان ويعتزون بها، حيث تُزيّن شوارع صيدا بفوانيس رمضان من مختلف الأحجام والألوان. أما مدينة النبطية فقد شهدت حدثا كبيرا ومميزا في رمضان عام 2012، حيث نظمت بلدية النبطية احتفالا بإضاءة أكبر فانوس في العالم، ويبلغ طوله 18,5 مترا، وعرضه 5 أمتار، ووزنه 3800 كيلوجرام، مع 16 كشافا كهربائيا، وقد استغرق تصنيعه 180 يوم عمل.

المائدة اللبنانية.. تنوع بلا مثيل

يمتاز المطبخ اللبناني بتنوع روافده الحضارية ما بين الحضارات الفينيقية والعثمانية والأرمنية والفرنسية، وبفضل تنوع مكوناته، فإنه يرسم صورة غنية تتجلى -كأوضح ما يكون- على مائدة الإفطار الرمضانية. التبولة والفتوش هي أجمل السلطات اللبنانية التي لا يمكنك تخيل المائدة الرمضانية دونها، وبالطبع أطباق الفتة والمقبلات اللبنانية المعروفة بتنوعها والتي تُعرف بأطباق “المزات”، سواء الباردة مثل ورق العنب البارد والحمص بالطحينة والكبة النية والسودة النية، أو المزات الساخنة مثل الكبة المقلية والسمبوسك وأجنحة الدجاج المقلية وفطائر السبانخ والجبن.

ومثل الموائد السورية، لا تخلو موائد اللبنانيين من عصائر رمضان التقليدية، مثل الجلاب والتمر الهندي والعرقسوس والخروب منقوع قمر الدين باللوز والزبيب. وتعمر المائدة الرمضانية اللبنانية أيضا بمختلف أنواع الحلوى، حيث تشتهر مدن معينة بصناعة الحلويات، على سبيل المثال تشتهر مدينة طرابلس بصناعة حلاوة الجبن اللذيذة، أما صيدا فتشتهر بحلوى السنيورة. ومن أشهر أصناف الحلوى الرمضانية أيضا القطائف وزنود الست والمدلوقة والمفروكة والعثملية.

بالتأكيد تؤثر الظروف الاقتصادية الطاحنة على طقوس رمضان في لبنان. وقد دعا مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ “عبد اللطيف دريان” إلى التضامن بين اللبنانيين خلال الشهر الكريم، وأشار إلى أن المؤسسات الخيرية والإنسانية هي الدعامة الباقية للاستقرار والاستمرار، خصوصا في ظل الاحتياجات المتزايدة والقدرات المتضائلة بسبب الظروف التي تمر بها البلاد.

“حيوا أهل الشام يا أهل الله

يا عباد الله عباد الله.. تعرف الإنسان من الطلة

حط قلبي شهود على الطبلة.. تعرف الإنسان من الشوفة

لا ترى مهواه ولا خوفه.. لا ترى أدناه بيدلي

لا ترى أعلاه ولا بيشهق.. في شحوب النار وفي الأزرق”(*)

————————————————–

(*) الأبيات المذكورة من قصيدة سحور أبو الطيب من ديوان فؤاد حداد “أيام العجب والموت”.

Exit mobile version