نيقوسيا (أ ف ب)
قصد الأولمبياد الثامن عشر طرفا بعيدا من العالم، فاتجه عام 1964 نحو العاصمة اليابانية طوكيو التي كان مقرّرا أن تستضيف الألعاب عام 1940، لولا الحرب الصينية-اليابانية التي نزعتها منها وأعطيت لهلسنكي وقبل أن يقضي جنون الحرب العالمية الثانية على الصورة الجميلة من المنافسات ويوقد نيران القتل والدمار.
وبدلا من أن يقف الإمبراطور هيروهيتو ليعلن افتتاح أولمبياد 1940، تأجلّت كلمته المقتضبة 24 عاما لتعود طوكيو وتحتضن دورة أقيمت من 10 إلى 24 تشرين الأول/اكتوبر 1964 هي الأولى في القارة الآسيوية وجمعت 5152 رياضيا بينهم 678 لاعبة من 93 بلدا.
تباروا في 163 مسابقة وسباقا ضمن 19 لعبة هي: ألعاب القوى والتجذيف وكرة السلة والكانوي والملاكمة والدراجات والمبارزة والفروسية وكرة القدم والجمباز ورفع الأثقال والهوكي على العشب والجودو والمصارعة والسباحة والخماسي الحديث والكرة الطائرة والرماية واليخوت.
ودخلت إلى جدول مسابقات هذه الدورة الكرة الطائرة وفيها استعادت الولايات المتحدة المركز الأوّل في ترتيب جدول الميداليات من الاتحاد السوفياتي برصيد 90 ميدالية بينها 36 ذهبية مقابل 96 ميدالية (30 ذهبية) للسوفيات، وحلّت اليابان ثالثة برصيد 29 ميدالية (16 ذهبية).
وكانت الدورة باب الدخول الكبير للدول الأفريقية إلى “العالم الاولمبي” في ضوء استقلال غالبيتها معزّزة حجم العالم الثالث والمحور الجديد في المواجهات والمجابهات بين الشمال والجنوب. حضور انطلق خجولا ولا سيما أن عددا كبيرا من الوافدين الجدد تمثل ببعثات قليلة العدد اقتصر بعضها على شخص واحد.
وحضرت الجزائر وساحل العاج والكاميرون والكونغو برازافيل ومالي والنيجر والسنغال وتانجانيكا وزنزيبار وترينيداد وتوباغو وتشاد ومنغوليا والدومينيكان وماليزيا ونيبال.
و”حرمت” جنوب أفريقيا من الحضور بسبب سياستها العنصرية، وغابت الصين غير المرتاحة للجار الآسيوي الذي استعاد الوقوف على قدميه، وكانت تحضر لتجربتها النووية الأولى.
وكانت ألعاب طوكيو مناسبة لتضع اليابان في مسرح الأمم، وأرادتها حكومتها فرصة ذهبية للعلاقات العامة ولتظهر مقدرتها وقوتها في التنظيم على رغم تقاليد شعبها وعدم تفاعله وإظهار حماسته، علما بأن كل فرد فيه كان معنيا بالألعاب “لأنها واجب وطني”، وبوادر الود والضيافة والتهذيب تجلت في حلة زاهية.
وأنفقت اليابان 3 مليارات دولار لتجديد عاصمتها التي دمّرت في الحرب العالمية الثانية، وشيدت منشآت تتخطى زمنها من حيث العصرية والمظهر الهندسي غير المألوف، وحمل الشعلة نحو المرجل الكبير لإيقاد نيرانه في افتتاح الألعاب يوشيموري ساكاي (19 عاما) الذي ولد في 6 آب/أغسطس 1945 يوم إلقاء القاذفة “بي 29” المسماة “اينولا غاي” قنبلة “ليتل بوي” (الولد الصغير) على هيروشيما.
– تقنيات جديدة –
وبفضل شبكة “موندوفيزيون”، تابع 600 مليون شخص الدورة، فضلا عن ظهور تقنيات جديدة في التصوير الفوتوغرافي وعدساته والنقل التلفزيوني، واستخدم المضمار الترابي (الصلصال) في ألعاب القوى للمرة الأخيرة، كما راج استعمال الزانة المصنوعة من الألياف الزجاجية.
وطوق العداء التونسي المميز محمد القمودي عنقه بفضية سباق 10 ألاف م، واحرز مواطنه حبيب قلحية برونزية الملاكمة لوزن خفيف الوسط (اقل من 63.5 كلغ).
وتألق الاميركي بوب هايز في سباق 100 م، وتفوق النيوزيلندي بيتر سنل (25 عاما) في 800 و1500 م بعد ان حصد ذهب 800 م في روما، وقرر الاعتزال.
وعاد ذهب الوثب العالي للسوفياتي فاليري برومل حامل الرقم القياسي العالمي (2.28 م) والمميّز بارتقائه إلى الإمام حيث يكون بطنه لجهة العارضة، وهو سجل 2.18 م وتفوّق على الأميركي جون توماس بفارق المحاولات.
“وابتلع” الاميركي دون شولاندر الطالب في جامعة يال، منافسيه في الحوض فقطف سباقات 100 م و400 م والتتابع 4 مرات 100 م والتتابع 4 مرات 200 م، بفضل سرعته التصاعدية في الأمتار ال20 الأخيرة.
ونافست الاسترالية دون فرايزر الإرادة الشخصية فحصدت ذهبية 100 م حرة للمرة الثالثة على التوالي، وعلى رغم اقترابها من سن الثلاثين.
وودّعت السوفياتية الناعمة لاريسا لاتينينا صالات الجمباز بذهبيتين أضافتهما إلى 7 أخريات هي نتاج دورات سابقة، ورفعت مجموع ميداليتها في الألعاب إلى 18 ميدالية.
وبكت اليابان عندما فاز الهولندي انطون غيسينك “متعلّم الكار” على أيدي مواطنيها، وذلك عندما أسقط أكيو كاميناغا في نهائي الوزن المفتوح للجودو.
ويصف النقاد والمؤرخون الرياضيون “طوكيو 1964” بأنها خلت من المضايقات والمشكلات الجانبية، غير أن الملاكم الأسباني فالنتين لورين ابى إلا أن يثأر بعد إقصائه من نزالات وزن الريشة لارتكابه خروق غير قانونية في المباراة، فوجه لكمات إلى وجه الحكم المجري جرجي سيرمز.
وفي ضوء هذا التصرف، قرر الاتحاد الدولي للملاكمة وقف الملاكم الأسباني مدى الحياة.
وكان الإيطاليون أبطالا لـ”آثار” الغش في سباقات الدراجات من خلال المنشطات تحديدا، إذ اعترضوا على اختيار بطلهم لسباقات السرعة جوفاني باتينيلا ليجري فحص البول، بعدما حل ثانيا في سباق الكيلومتر خلف البلجيكي باتريك سيرسو. وعرقل مواطنهم روندوني رئيس الاتحاد الدولي عمل لجنة الاختبارات المكلفة من قبل اللجنة الاولمبية الدولية. وهي اتهمته باعتراض طريقها مرارا عدة أثناء الألعاب، ورفعت تقريرا في هذا الخصوص إلى رئيس اللجنة الدولية افري برونداج.
– غيسينك يفاجىء اليابانيين –
منذ دخولهم “الكبير” الاستاد المكتظ بمئة ألف متفرج، أراد اليابانيون أن يفرضوا وجودهم أمة رياضية قوية تساير نظيراتها الدول الصناعية في هذا العالم، لكن الهولندي انطون غيسينك تماهى في إنجاز غير مألوف بالنسبة لرياضيي بلاده فهو لم يتوج في لعبة شمالية كالتزلج أو التزحلق بل في رياضة “مقدسة” عند “العرق الأصفر” هي الجودو.
غيسينك (1.98 م و120 كلغ) هو أساسا خرّيج المدرسة اليابانية فاز على معبود الجماهير الذي “لا يقهر” كاميناغا وكان أمامه جبلا من العضلات اللينة. زار اليابان للمرة الأولى عام 1956، ثم صار يتردّد عليها سنويا ويمضي نحو أربعة أشهر في ربوعها، “خبرت العادات والعقلية والطباع اليابانية، وكنت أعرف أن منافسي يهاجم دائما من الجهة اليسرى، ومفتاح فوزي عليه يكمن في تفوّقي البدني، وهذا ما سعيت اليه وتحقّق”. فتحوّل اليوم التالي إلى يوم حداد في اليابان في حين كرّمت ملكة هولندا غيسينك وحملت شوارع عدة اسمه.
انه “البربري” الذي حطم أسطورة الجودو اليابانية في غضون 30 ثانية، بعدما شل قدرة كاميناغا وقطع أنفاسه وشاهد 90 مليون نسمة “الفاجعة” على الهواء مباشرة.
وفي ألعاب القوى، برز الاميركيون في سباقات “غير مألوفة”، أو تقليدية بالنسبة أليهم لكنهم ظلوا على عهدهم في المسافات القصيرة، وفي مقدمة نجومهم هايز الذي كسر حاجز الثواني العشر في نصف نهائي 100 م مسجلا 9ر9 ث، غير أن الرقم لم يسجل بسبب سرعة الريح. وهو من دون شك النموذج المثالي لعدائي العصر الحديث، لكن من دون “رتوش” أو مقبلات دعائية وحملات علاقات عامة، ولما ترك المضمار احترف الكرة الاميركية في دالاس.
بلغ نهائي سباق 100 م ستة عدائين سود وأبيض واحد، وانصبّ اهتمام الجميع على معرفة الفائز بالمركز الثاني، لأن هايز كان لا يمسّ في هذا الاختصاص. وسجّل زمنا مقداره 10 ث، مقابل 10.2 ث لكلّ من الكوبي هنريكه فيغويرولا والكندي الأسود هاري جيروم.
واخترق سباق الماراثون جادات وشوارع مدينة طوكيو الملوّثة بغبار الصناعة ودخانها وغازاتها وسمومها. وعاد “الجندي الإثيوبي” أبيبي بيكيلا ليجدّد فوزه لكنه إنتعل حذاء وسجل رقما مقداره جديدا 2:12:11.2 ساعة. وبات أول من يحتفظ بلقب هذا السباق الصعب، واستقبل في بلاده استقبال الفاتحين قبل أن تصدمه سيارة ويقتل لاحقا.
وصفق اليابانيون طويلا لمواطنهم كوكيش تشوبورايا الذي كان يلي بيكيلا في الترتيب، غير أن البريطاني بايزل هيتلي تجاوزه في الأمتار الأخيرة، وتقدم عليه إلى المركز الثاني بفارق 3 ثوان فقط.
وأمل اليابانيون مجددا بتتويج في “أم الالعاب “، وصوّبوا أنظارهم نحو ايكوكو يودا نجمتهم في سباق 80 حواجز لكنها حلت خامسة في النهائي، في حين كان الذهب من نصيب الألمانية كارين بالزر التي سجلت رقما عالميا (10.5 ث).
وباتت آن باركر أوّل بريطانية تحرز ذهبية في ألعاب القوى الاولمبية، إذ توجت بطلة لسباق 800 م وعززت انتصارها برقم عالمي أيضا (2:01.1 د)، وسبقتها إلى تقلد الميداليات، مواطنتها ماري راند التي حلت ثانية في الخماسي الحديث.
وسعى الفرنسيون إلى نفض خيبات دورة روما عن كاهلهم، لكنهم ظلوا بعيدا من اعتلاء منصة المركز الأول، حتى أن عداءهم ميشال جازي الشخصية الأكثر شعبية بعد الجنرال شارل ديغول، وحامل ثلاثة أرقام عالمية، أخفق في سباق 5 ألاف م الذي عاد لقبه الى الاميركي روبرت شول. والسبب المباشر لهذا “السقوط” الضغط الكبير على كاهله، سوء التكتيك الميداني ومعاناته من هطول المطر نقطة الضعف التي طالما عرقلت مشاركاته.
وفي السباحة، تبارت كريستين كارون (16 عاما) نجمة الحوض في فرنسا وأوروبا وحاملة الرقم القياسي العالمي في 100 م ظهرا، أمام 20 ألف متفرّج وحلّت ثانية خلف الأميركية كايتي فيرغسون (1:07.7 د رقم عالمي جديد) وأمام الألمانية روث دونكل. وفي العام التالي تغلبت “كي كي” على البطلة الاولمبية في عقر دارها.
ووصف بيتر دالاند مدرب فيرغسون السباحات الثلاث بأنهن من مستوى واحد، “لكن الفارق يبقى في مصلحتنا بفضل العدد الكبير للخامات الجيدة في الولايات المتحدة”.
وكانت “كي كي” تحظى بشعبية فائقة، وتصلها يوميا إلى القرية الاولمبية ثلاثة طرود كبيرة من البطاقات البريدية تحمل تمنيات المشجعين والمحبين وعددا من طلبات الزواج.
وفي الختام، أنقذ “الشرف الفرنسي” الفارس جان جونكير أوريولا بطل دورة هلسنكي 1952 في قفز الحواجز، الذي جدّد تألقه في الجولة الثانية تحديدا على صهوة “لوتور”. فكان محاربا بكل ما للكلمة من معنى.
وضعت الألعاب أوزارها في 24 تشرين الأول/اكتوبر، ومهّد الوداع لاولمبياد مقبل سيحتفل به في مكسيكو. حملت سنواته الأربع حرب فيتنام وتفتق الثورة الطلابية في العالم وربيع براغ ووداع نيكيتا خروتشوف وجون كينيدي.
ا ف ب/جأش
© 2021 AFP