جميعنا سمع ولو لمرة في حياته عن قصة الحب الشهيرة روميو وجولييت، وهي المسرحية التي كتبها الشاعر الإنجليزي الكبير، وليم شكسبير، حول نزاع ثأر بين عائلتين كبيرتين في مدينة فيرونا الإيطالية، ليقع الصبي روميو في حب الفتاة جولييت من العائلة المنافسة، وتنتهي المسرحية التي استُلهمت في أعمال سينمائية وفنية بلغات عديدة بانتحار الشابين بعد مقتل ابن عم جولييت على يد روميو، واليوم سنتعرف إلى أشهر قصة حب فارسية، والتي لم يسمع الكثيرون بها، وهي قصة خسرو وشيرين. ملك عاشق وأميرة جميلة، ألهم حبهما كبار شعراء الفارسية لكتابة قصتهما في شكل شعري أسطوري، فما القصة؟ ومن هما؟
أشهر 3 نسخ شعرية للقصة
تعود أصول قصة الحب الأسطورية هذه إلى جذور فارسية أقدم من النسخ الشعرية المعروفة لدينا، وقد تناولها ثلاثة من كبار شعراء الفارسية أولهم هو الشاعر أبو القاسم منصور الفردوسي (1140– 1202م) مؤلف ملحمة الشاهنامه، أو ما يُعرف بكتاب الملوك، وهو عمل تاريخي ملحمي، وثانيهم الشاعر نظامي الكنجوي (1141– 1209م) مؤلف قصة خسرو وشيرين، أما ثالثهم فهو الشاعر الصوفي فريد الدين العطار (1142– 1220م) مؤلف المنظومة الشعرية خسرو نامه، أي سيرة خسرو التي صدرت ترجمتها العربية الأولى في 2017 عن دار آفاق، وكلها رؤى مختلفة للقصة مع الحفاظ على إطارها الرومانسي والدرامي.
تعد قصة خسرو وشيرين من القصص الفارسية القديمة المشهورة قبل الإسلام، وهي قصة أسطورية جعل الشعراء من الملك كسرى الأول محورها لعظمته وتاريخه المجيد بالنسبة للفرس، إلا أنها في مجملها قصة أسطورية، فقد وجدت عدة قصص شعبية متعلقة بأحداثها أو مستلهمة منها قبل سقوط الدولة الساسانية حوالي 224– 652م.
وكان محمد بن جرير الطبري (839– 923م) أول من أشار إلى هذه القصة من المؤلفين العرب في كتابه «تاريخ الأمم والملوك» المشهور بتاريخ الطبري، وذكرها أيضًا أبو منصور الثعالبي (961– 1038م) في كتابه «غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم».
وقد استلهم الشاعر أبو القاسم الفردوسي قصة العشق القديمة لخسرو وشيرين لكنه أضفى عليها طابع الفخر والبطولة الذي يتردد عبر صفحات ملحمته، وكان على قصة خسرو وشيرين أن تنتظر قليلًا من الوقت حتى يقرر جمال الدين محمد أبو إلياس، الشهير بنظامي الكنجوي، أن يضفي عليها طابعًا رومانسيًّا وأكثر شاعرية، لتكون القصة الرومانسية الخالدة للملك خسرو أنوشروان المشهور بكسرى الأول ملك فارس.
نسخة من مخطوط من القرن 14م للشاهنامه تصور خسرو في المنتصف جالسًا على عرشه، ويكيبيديا-
حلم الجد الكبير
تبدأ نسخة نظامي الكنجوي بسرد ميلاد خسرو وتعليمه، ثم نعرف أن خسرو- ولي العهد – قد تناول الطعام مع أحد المزارعين في مأدبة خاصة؛ ما أغضب والده الملك هرمز الرابع بشدة ودعاه لتعنيفه، وبعد إلحاح واعتذار من قبل الأمير يقبله والده على مضض.
وفي تلك الليلة، نقطة انطلاق الأحداث التالية، رأى خسرو فيما يرى النائم، جده الذي بشره بأربع بشارات، أولها زوجة تدعى شيرين، وفرس يدعى شبديز، وعازف موسيقي اسمه بارباد، وأخيرًا بشرى بحكم مملكة عظيمة هي بلاد فارس.
وذات ليلة هادئة، وبينما كان يجلسان في شرفة القصر يخبره صديقه المقرب، وهو رسام يدعى شابور، للمرة الأولى عن الملكة الأرمينية ماهين بانو وابنة أختها الأميرة الجميلة شيرين.
على وقع الأوصاف البهية التي ظل صديقه المقرب يرددها على مسامعه ليلة بعد أخرى، يقع خسرو في حب شيرين الأميرة البعيدة، ويشتعل قلبه شوقًا إلى لقائها، فيطلب من صديقه شابور السفر إلى أرمينيا للبحث عنها، وبعد فترة من البحث ينجح شابور في الوصول إلى الأميرة شيرين ليريها صورة قد رسمها لصديقه خسرو، فتقع شيرين هي الأخرى في حب خسرو بعد رؤية صورته وسماعها عن خصاله الحميدة، فتقرر الهرب من أرمينيا إلى بلاد فارس حيث عاصمة خسرو، في الوقت نفسه الذي يهرب فيه الأمير من بلاد فارس من والده بحثًا عن شيرين، يبدأ العاشقان سعيًا طويلًا للقاء.
كان خسرو يسافر متخفيًا في ملابس المزارعين حتى لا تُكشف هويته، وفي أثناء طريقه شاهد امرأة جميلة تستحم وتغسل شعرها «المتدفق الناعم» على حد تعبير الكنجوي، لكنها لم تعرفه بسبب تخفيه، وهو لم يعرفها لأنه قد أحبها بالسمع من صديقه شابور دون رؤيتها بعد، وعليه يمضي في طريقه نحو أرمينيا حيث رحبت به ملكة أرمينيا شاميرا وأحسنت استقباله، لكنها أخبرته أن شيرين ليست موجودة في أرمينيا.
منمنمة فارسية تصور خسرو وهو يمر قرب شيرين وهي تستحم وتجدل شعرها، رسمت حوالي 1550م، ويكيبيديا –
ولما لم يكن هناك متسع من الوقت ليبحث عنها في أرمينيا؛ إذ تلقى نبأ وفاة والده، فاضطر للعودة إلى العاصمة وبعث مرسول الحب الأول صديقه شابور للبحث عن شيرين مرة أخرى، ولكن في بلاد فارس هذه المرة.
تجمعهما الحبكة الدرامية للقصة في المكان نفسه دون أن يعرفا بعضهما عدة مرات حتى تجري إطاحة خسرو من الحكم على يد أحد قادة جيشه المسمى بهرام شوبان، وتسوء الأحوال فيضطر الملك خسرو للهرب إلى أرمينيا.
ميدالية بلورية من القرن السادس الميلادي تصور الملك خسرو، محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس، الصورة: موسوعة بريتانيكا
اللقاء الأول
وفي أرمينيا وهو طريد ومهزوم يقابل خسرو شيرين للمرة الأولى، لكنها ترفض الزواج منه قبل أن يسترد مملكته المسلوبة على يد القائد بهرام شوبان، فيترك خسرو أرمينيا – عملًا بنصيحة شيرين- للذهاب إلى القسطنطينية لطلب العون من الإمبراطور البيزنطي لاستعادة بلاده.
وافق الإمبراطور على مساعدته لكنه اشترط زواج خسرو من ابنته مريم، على عادة القدماء آنذاك في توطيد الصلات وعقد التحالفات – كما اشترط أيضًا على خسرو التعهد بعدم الزواج من أي امرأة أخرى طالما كانت ابنته على قيد الحياة، وبعد عدة معارك ينجح خسرو بمساعدة الإمبراطور في هزيمة عدوه واستعادة عرشه، وبعد فترة من الزمن تعرف الزوجة الجديدة وأم ولي العهد الأمير شيرويه بقصة الحب القديمة لزوجها خسرو، فتحاول عدة مرات أن تبعد خسرو عن شيرين دون جدوى.
فرهاد.. العاشق المنافس
إن أميرة جميلة ورقيقة مثل شيرين سرعان ما كانت تجد العديد من المحبين والعشاق، أحدهم كان نحاتًا يدعى فرهاد، الذي أبدى عميق حبه وعشقه للأميرة الهاربة شيرين، وحين ذاع حبه وعرف به الملك خسرو الذي يعشق شيرين هو الآخر لكنه لا يقدر على الزواج منها طالما كانت زوجته على قيد الحياة، حتى لا يكسب عدوًّا قويًّا هو الإمبراطور البيزنطي، أرسل خسرو النحات فرهاد في مهمة مستحيلة تتمثل في نحت درج من الصخور شديدة الصلابة.
لا يتوانى الأخير عن قبول المهمة أملًا في الزواج بشيرين؛ ظنًّا منه أنه إذا نجح في مهمة شبه مستحيلة كهذه فسوف تراه جديرًا بالزواج منها، ويبدأ العمل بعزيمة قوية لكنه يتلقى بعد فترة رسولًا من الملك خسرو يخبره بوفاة شيرين، وعند سماعه لهذه الأخبار الكاذبة يلقى فرهاد بنفسه من أعلى الجبل ليموت بعد فقدانها.
وبعد الحادث يكتب خسرو رسالة إلى شيرين يعرب فيها عن أسفه لوفاة فرهاد، وفي تصاعد درامي للأحداث أشبه بالعاقبة الأخلاقية تتوفى مريم زوجة خسرو بعد فرهاد بفترة وجيزة، وحسب نسخة الفردوسي فقد كانت شيرين هي التي سممت مريم سرًّا، كتبت شيرين بدورها رسالة تعزية أخرى إلى خسرو في وفاة زوجته.
الآن وقد أصبحت الأجواء مهيأة لخسرو للزواج من شيرين معشوقة الصبا، ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، يقيم خسرو علاقة حميمة مع امرأة أخرى تدعى شيكار، وبعد فترة من الرفض واللوم الذي وجهته له شيرين بسبب فعلته تلك، يذهب خسرو إلى قلعة شيرين ذات يوم لرؤيتها ولإبداء أسفه وندمه لكنها لا تسمح له بالدخول وهو مخمور، فعاد إلى قصره حزينًا ومنبوذًا.
منمنمة فارسية تصور خسرو واقفًا بالقرب من أحد « أنهار» اللبن التي صنعها لشيرين حتى ترضى عنه، ويكيبيديا
وبعد عدد من الحبكات الرومانسية والبطولية بينهما وافقت شيرين في النهاية على الزواج من خسرو، لكن يبدو أن القدر يأبى أن يجتمع هذان العاشقان تحت سقف واحد إلا مصادفة ودون أن يعرفها بعضهما، فقد وقع الأمير الشاب شيرويه ابن الملك خسرو من زوجته مريم، في حب شيرين نموذج والده الأسمى عن الحب.
وانتشرت الأنباء في القصر عن ذلك الهوى في نفس الأمير شيرويه، الذي دفعه لقتل والده من أجل الفوز بالعرش وشيرين معًا، وبعد مقتل والده، أرسل لها رسولًا ليخبرها بالاستعداد للزواج منه خلال أسبوع واحد.
وحين بدت كل الطرق أمامها مغلقة فهي لا تستطيع العودة إلى أرمينيا وأهلها بعد كل هذه السنوات ولا مفر من الملك الجديد ما دامت في بلاد فارس، انتحرت شيرين حتى تهرب من زواجها من قاتل حبيبها خسرو، لتنتهي القصة باجتماع خسرو وشيرين معًا للمرة الأولى في قبر واحد حيث دفنا معًا.
ذلك هو الهيكل العام وملخص القصة الشعرية والبطولية التي كتبها الشاعر نظامي الكنجوي عن قصة حب خسرو وشيرين، واستلهمها من بعده العديد من شعراء الفارسية، وكتبها الشاعر الصوفي فريد الدين العطار في منظومته المسماة خسرو نامه، أي سيرة خسرو، لتكون أول شكل شعري عن ملحمة خسرو وشيرين يتضمن المفاهيم الصوفية والتأويلات الرمزية، ويعد فريد الدين العطار أول من أضفى الطابع الصوفي على القصة، واتخذ منها وسيلة للتعبير عن الأفكار والمفاهيم الصوفية؛ فقد أطلق فريد الدين العطار على منظومته هذه «زبور الفارسية»، في إشارة إلى زبور النبي داود المذكور فى القرآن.
والمنظومة الشعرية في مجملها ترمز إلى العشق عند الصوفية، وتصف أحوال العاشق وتشرح ما يعانيه من آلام العشق، إذ شبه معاناة خسرو في الوصول إلى محبوبته تمامًا بمعاناة الصوفي الذي يسعى للوصول إلى الله وتعوقه رغبات النفس ومشاغل الدنيا، كما حالت رغبات خسرو بينه وبين محبوبته حين خانها في المرة الأولى، وكذلك ما يمكن أن يسببه الآخرون من انتكاسة للسائر في طريق الله، تمامًا مثل فرهاد العاشق المنافس الذي ظهر لخسرو، لأن العاقبة الأخلاقية لم تكن في صالح خسرو الذي تآمر لقتل فرهاد.
وكان الدرس المستفاد الذي تمثل من خلال القصة بالنسبة للعطار أن الطريق إلى الله ليس حكرًا على صوفي واحد بعينه، وبأن وجود الآخرين في ذلك الطريق معك لا يستدعي كراهيتهم أو محاولة التخلص منهم كما فعل خسرو، والمنظومة تشتمل على الكثير من النصائح والمواعظ والحكم والأمثال؛ لذا ينبه العطار القارئ إلى ضرورة تدبر معانيها وكشف أسرارها وفهم رموزها، التي هي أبعد من مجرد قصة خسرو وشيرين، إنما كانت قصة العاشقين بمثابة الثوب الأدبي الذي ألبسه العطار لمنظومته الشعرية الصوفية.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن رمزية القصة وأهميتها لا تتعلق فقط بقصة الحب التي قد نجد تفاصيل مشابهة لها في عدة آداب متنوعة في العالم، وأحداث روميو وجولييت لا تختلف كثيرًا فيما يتعلق بالانتحار الناتج من الوشايات الكاذبة وحوادث القتل، إنما تنبع أهميتها الحقيقية من طابعها الشعري والملحمي وارتباطها بملك من أشهر وأهم الملوك الساسانيين.
ديناران منقوش عليهما صورة الملك كسرى (خسرو) الأول، الدينار رقم 5 ذهبي ويعود لحوالي العام 531م والدينار رقم 6 من الفضة ويعود لحوالي 537م – المتحف البريطاني
إن خسرو الحقيقي أو كسرى الأول- خسرو هو النطق الفارسي الحديث لكسرى- هو ملك فارسي عاش في الفترة من حوالي 514م – وتوفي 579م، وهو الملك الذي كان إدخاله نظام الضرائب إلى فارس القديمة من أهم أعماله، كما أنه كان من مؤسسي ما نعرفه اليوم بالوزارات أو الدواوين بالفارسية.
وقد قاد العديد من الحملات العسكرية الناجحة، وكان راعيًا للثقافة والفنون والآداب، فبعد انهيار مدرسة أثينا في اليونان هاجر الكثير من فلاسفة اليونان وعلمائها إلى بلاد فارس تحت حكم خسرو، حتى مدرسة الطب والحكمة الشهيرة في العصور الوسطى بمدرسة «جندياسبور» التي تخرج فيها العديد من المترجمين العرب المهمين، قد بدأ تكوينها على الأرجح في فترة حكمه.
ولا تخلو القصة كلها من مقاطع شعرية مليئة بالحماسة والشجاعة، خاصة في معارك خسرو لاستعادة حكمه، وكذا في العشق وماهيته، وحتى قصص الوشاة الذين يوقعون بين المحبين، لتثبت ملحمة خسرو وشيرين جاذبية فكرة الحب على إطلاقها لإنتاج الأعمال الأدبية الرفيعة واستلهام اللوحات الفنية المعبرة عنه.
علامات
إيران, الحب, الفردوسي, الفرس, المتصوفة, خسرو, روميو وجوليت, شيرين, فرهاد, فريد الدين العطار, نظامي الكنجوي