في زحمة الدراما الرمضانية، أخذت بعض الأعمال نصيباً أكبر من المتابعة، والنقاش، والتعاطف والرفض، من هذه الأعمال المسلسل السوري «كسر عضم»، الذي عرض عبر قناة أبوظبي، وتصدر «الترند»، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، برؤيته الإخراجية، وأداء الممثلين العالي، ما يجعلنا نقف عند لغة الجسد، والصوت، صوت الحياة المسحوبة من الناس؛ فقد كان صوت الأمن والمخابرات هو الصوت الأبرز، الذي عكس سؤال الفساد والواقع المر الذي يعيشه السوريون بعد حرب تابعناها عبر القنوات والصحف والمواقع الاجتماعية، وعشناها في الواقع أيضاً.
ومن يتابع العمل يسمع صوت البشر والحجر، حيث لا شيء على حاله أمام خراب سلطة الأمن، والقضاء، والتعليم، فلم تبق إلا صرخة الخلاص، ولو على كفن كما حدث للممثل الذي باع كليته؛ ليؤمن تكاليف السفر، لكنه لم ينجُ. يشكل العمل الدرامي الاجتماعي مقطعاً حياتياً من حياة وطن، لا نقول بعد الحرب؛ لأن الحرب لم تنتهِ بَعْدُ، الحرب بين الرؤوس والنافذين، ومن يستمر في معركة مكان أقل ما يقال عنه إنه غابة، وفي الغابة يؤكد فايز قزق في دوره بشخصية «حكم أبو ريان»، أن البقاء للأقوى، ويحكي لابنه عن شريعة الغاب والفوز، لكن الفوز بماذا؟
يبدأ العمل من الأجهزة المخابراتية، مروراً بسلك القضاء والتعليم، بالبيت والحارة والساحات، والأسواق، والجامعات، والمدارس، وأصحاب المهن، ونرى في هذا التتابع مجتمعاً مأزوماً، الكل يبحث عن الخلاص، وفي الوقت الذي يسيطر فيه صوت الحكم، نسمع أصواتاً خجولة وخافتة، تبحث عن العدالة، ولا ترضى بالظلم. حقق العمل الدرامي الاجتماعي ومنذ الحلقة الأولى متابعات، وأثار جدلاً على «السوشيال ميديا»، بدءاً من النص، مروراً بلغة الجسد والأداء العالي للممثلين، والبعض اعتبر أن العمل ملوّن بلون اليأس، كأنه دفع من بقي إلى الهجرة، والرحيل، والخوف من خدمة العلم، والخوف من الغد، والخوف من كل شيء، والإرث، والتخرج في الجامعة، وهو ما نراه في المقطع الذي يحكي عن صبايا تتحكم بهن امرأة، تسيطر عليهن، كأنهن داخل معتقل.
الحرب والواقع:
ما السؤال الجوهري الذي يطرحه عمل «كسر عضم»، وما الذي أراد مؤلف العمل والمخرج وكل فريق العمل أن يقولوه؟ وبالتالي.. هل نكتفي بتعرية الواقع، وتسليط الضوء على ما بات معروفاً لكل قاصٍ ودانٍ، أم هو تسجيل الفساد، والذي يجمع هنا بين الواقعي والمتخيل، لأن أي عمل فني هو تخيّل للواقع مهما بلغ هذا الواقع من الرداءة، ومهما تحوّلت البلاد إلى بيئة طاردة، كما نسمعها ونراها على لسان أبطال العمل؟
لغة الجسد:
في سياق الحديث عن الفن، نتوقف عند التمثيل، والأدوار التي شكّلت خيط العمل، لاسيما فايز قزق، الذي تألق في فيلم «ليالي ابن آوى»، وفي المسرح في «رأس المملوك جابر»، وفي «تقاسيم على العنبر»، حينما لعب دور «أندريه»، بانتماء مفزع. واليوم، يعود إلى الدراما بأداء مسرحي عالٍ، ونقول مسرحياً؛ لأن الصوت ولغة الجسد ولحظات الصمت تتعانق معاً، وتحفر عميقاً في شخصية رجل المخابرات الذي يحفر بأدائه العالي لاستخراج كل بواطن الشر، فيعيش نكهة أكل الحرام، ومتعة الاغتصاب والقتل، وإقصاء الآخر، وربما يجسد دور وحش في مدينة، إلى أن يقف وجهاً لوجه أمام انتحار ابنه «ريان»، هنا يقول: «كسرت ضهري يا ريان».
استطاع برصانة عالية أداء دور «الحكم»، واستخراج بواطن رجل الأمن، كأنه يقذف بنفسه إلى التعبير الأعلى، ويحفر بذاكرة كلّ من يتابعه.
في هذا السياق، ومن خلال الدوائر المتتابعة، يستوقفنا دور كرم الشعراني (هيثم)، الرجل المنتمي لسيده، والذي استطاع بصوته وأدائه التعبيري بعينيه وصوته وجسده النحيل، وابتسامة الغدر، أن يتفوق في أداء صورة الشيطان، الخبيث، الذي لا يرف له جفن، في حياكة كل ما يريده الحكم، ورغم هذا الإخلاص والانتماء ندرك عميقاً أنه سينقلب في لحظة ضعف سيده؛ ليأخذ دوره.
أيضاً ظهر في «كسر عضم»، الممثل سامر إسماعيل، في دور (ريان)، وهو الابن الأكبر لـ(حكم الصياد)، الذي يؤدي صورة أخرى لرجل الأمن، ويتصدى لوالده كي يوقعه، وبالتالي يعكس الصراع بين سلطة الأمن والضمير، واستطاع بجرحه وابتسامته وصوته الحفر في الشخصية التي يؤديها، ما جعله نجماً حقيقياً وهو ما لمسناه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
المرأة صوت الضحية:
«كيف بلحظة بس بلحظة تحوّل الفستان الأبيض لكفن، التفيت فيه من تاريخ هداك اليوم، التفيت فيه من هداك اليوم بس لأجل خبر موتي»، نعيد كلام كاريس بشار التي تؤدي دور (عبلة إسماعيل) في العمل، والتي اعتقلت يوم زفافها، فتحوّل هذا الفستان إلى أسود، ورسم هذا اليوم حياتها، فنراها بعد هذا قد تزوجها (الحكم)، بشكل إجباري فقط ليكسر رأسها ويذلها، تطلق منه، تتزوج من غيره، فيفجره، وهكذا توضع في المعركة ولا شيء أمامها سوى حكم، فتدخل في لعبة تكسير عضم، دون أن تخلع إنسانيتها. يضع «حكم» شرطاً؛ كي يخرجها من المعتقل، فتقول له: «بتقبل تتزوج وحدة أهون عليها العمى من أن تشوف وجهك»، فيرد: «إذا كان القصد إني أكسر لها رأسها ليه لأ». في هذا السياق، تؤدي كاريس دور المرأة النمرة، التي تتصدى لكرامتها، أداءً ذكياً وأنثوياً عالياً بتلاوين صوتها، بدمعها، بهدوئها، بإدانتها لكل ما تراه، وهي الممثلة التي استطاعت أن تصل إلى الصف الأول في أدوارها المتعددة، وشخصياتها من بنت الحارة إلى السيدة، وبكل الأدوار تقنع وتترك صورة لممثلة استطاعت أن تقف أمام أسماء متعددة، وتكون لها شخصيتها الإبداعية.
أما نادين خوري، فهي الأم المثالية في عائلة الدراما السورية، تحضر بشكل شفيف وأنيق، وتشكل بشكل أو بآخر صورة المرأة الأنيقة والمؤثرة بهدوء في أولادها.
ضوء الحب:
في هذه المعركة التي نتابع أحداثها، بل في هذا الصراع الذي يقارب الواقع لكنه لا يتفوّق عليه، لأن الحروب فادحة أكثر من أي عمل إبداعي. هنا، يستوقفنا أداء نادين تحسين بيك، أختها وجيرانها، فهؤلاء منحوا العمل بسمة الحياة وربما العمل، لأنهم يمثلون البيئة التي نجت إلى حد ما من المستنقع الذي يحيط بهم، ومن خلال الفن التشكيلي والحب بين الجيران، نستعيد قليلاً وجهاً من وجوه الشام، رغم أن المعركة تقول لن ينجو أحد.
الرؤية الإخراجية:
تمضي المخرجة رشا شربتجي بنجاح خاص في أعمالها المتعددة: (أشواك – غزلان – في غابة الذئاب – يوم ممطر – زمن العار – سعد الوراق تخت شرقي) الولادة من الخاصرة- و بنات العيلة – واليوم تحضر بقوة و تحقق نجاحا ملفتا في كسر عضم، وهي المايسترو الأهم في توزيع الأدوار، ورصد لغة الجسد والصوت، واختيار مواقع التصوير.
وجوه جديدة
الجميل في هذا العمل اكتشاف رشا شربتجي وجوهاً جديدة، يقفون إلى جوار أستاذهم فايز قزق، وهذا يدل على أهمية فن التمثيل الذي يرفد الدراما السورية بدم جديد دائماً والذي يشكل نهراً متجدداً من هؤلاء الوجوه: حسن خليل، راما زين العابدين، الليث الكحيل، والذين شكلوا إيقاعاً جديداً، وجميلاً، سواء الحديث عن الطموح، أو شغف الحب، أو التفكير بالخلاص من خدمة الجيش، أو السفر، أو الإرث، وبالمحصلة هي وجوه سورية منحت العمل برق الحب مقابل الخراب الدامي.