بدأ الرئيس التونسي، قيس سعيد، إجراءات استثنائية في 25 يوليو (تموز) 2021، هذه الخطوات وصفها معارضوه بـ«الانقلاب»، وسط ترقُّبٍ محلي وإقليمي للقرارات التي ستصدر، وبعد اجتماع سعيد مع رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، أعلنَ أن هناك «460 رجل أعمال نهبوا أموال البلاد، بقيمة إجمالية بلغت 13 ألفًا و500 مليار دينار تونسي»، وأعلن أنه لن ينكِّل برجال الأعمال هؤلاء، ولكن عليهم إرجاع الأموال للشَّعب، وذلك بإنشاء مشروعات اقتصادية في محافظاتهم وإعطاء الأولوية للمناطق الفقيرة.
ونقلت صحفٌ تونسية أنباء عن قرارات منع من السفر بأوامر من سعيد، تشملُ رؤساء الأندية الرياضية ورجال الأعمال والوزراء والمسؤولين، بالإضافة إلى نواب البرلمان ورؤساء البلديات.
اعتقال رجال الأعمال ومعاقبتهم تبدو خطوة بديهية في لحظة صعود نخبة جديدة إلى السلطة، لإعطاء انطباع سريع ومحسوس برغبة هذه النخبة الجديدة في محاربة الفساد، وأن تقطع علاقتها مع العهد الماضي لتبدأ صفحةً جديدةً غير مرتبطة بأثقال النظام السابق وأخطائه، كما أنَّها تمثِّل لبعض الأنظمة مصدرًا سهلًا وسريعًا لإثراء خزينة الدولة وإنعاشها ماليًّا.
هذه الخطوة السريعة إجراءٌ كلاسيكي اتبعته العديد من النخب الصاعدة، وتكرر مشهده في دول عدَّة؛ عربية وأجنبية، نستعرضها في هذا التقرير.
رجال الأعمال.. كبش فداء سهل للسلطة الجديدة
مع صعود الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية عهد المملكة السعودية عامَ 2017، أمرَ باعتقال مجموعة من كبار رجال الأعمال السعوديين وأكثرهم ثراءً بالإضافة لأمراء من العائلة الحاكمة، فيما عُرف باعتقالات «الريتز كارلتون»، نسبةً إلى الفندق الفاخر الذي اعتُقل الأثرياء المُستهدفون فيه، وعقدَ ولي العهد السعودي تسوياتٍ مع رجال الأعمال يتخلُّون فيها عن جزء من ثرواتهم لخزينة الدولة حتى يُطلق سراحهم، ثم أعلنَ الديوان الملكي السعودي أن المبلغ الإجمالي الذي حصَّله من هذه الاعتقالات وصلَ إلى 100 مليار دولار.
الأمير الوليد بن طلال، أمير سعودي وأحد أثرى رجال الأعمال السعوديين الذين اعتقلوا في الريتز كارلتون
العلاقة المتشعِّبة بين الدولة ورجال الأعمال، كثيرًا ما تظهر في أوقات الأزمات؛ إذ تحتاج الدولة رجال الأعمال للاستثمار والتنمية ودعم الاقتصاد، إلا أنَّ الكثير من السياسيين يستخدمونهم كبش فداءٍ لإرضاء الرأي العام، ولإعطاء انطباع عن نيتهم في محاربة الفساد والقطيعة مع ممارسات الماضي.
وفي 2009، حين كانَ فلاديمير بوتين رئيسًا لوزراء روسيا، في فترة انتقالية تمهِّد لعودته رئيسًا للبلاد، صنعَ بوتين عامَ 2009 مشهدًا تصدَّر الساحة الروسية والأنباء العالمية، بترؤُّسه اجتماعًا مع مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين الروس، يظهر فيه بوتين وهو يوبِّخ أولاج دريباسكا، الملياردير الروسي وأحد أغنى أثرياء روسيا حتى اليوم، والذي حاز ثروته باستحواذه على مجموعة من المؤسسات عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانهيار الاقتصاد الروسي، وسرعان ما تحوَّل إلى أحد عمالقة صناعات الألومنيوم في العالم.
مقاطع مصوَّرة تُظهر الاجتماع الذي جمع بوتين برجال أعمال روس ليُحاسبهم ويلزمهم حل مشكلات العاملين عندهم بشكل فوري.
وصلَ بوتين إلى مصنع في مدينة بيكاليوفو، يملكه رجل الأعمال دريباسكا، ليجد العمَّال ما زالوا في حالة إضراب، وأمام كاميرات الصحافة أصرَّ بوتين على إحراج أغنى رجل في روسيا حينها، وأجبره على توقيع اتفاقٍ مع الحكومة الروسية، لإعادة تشغيل المصنع وتشغيل الإنتاج فيه، مع الحفاظ على حقوق العمَّال ومناصبهم، وانتشر حينها مشهدُ بوتين وهو يقول لرجل الأعمال: «أعد إليَّ قلمي» بعد أن أخذه ليوقِّع الاتفاق رغمًا عنه.
وبالطبع حازَ هذا المشهد على إعجاب عمَّال المصنع، وسوَّق له بوصفه انحيازًا من الرئيس للعامل البسيط مقابل رجال الأعمال الأثرياء الجشعين.
أما في العالم العربي، ومؤخرًا، شهدت الجزائر، موجةً من الاعتقالات لرجال أعمال من وجوه عصر الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، اعتُقلوا خلال عام 2019، بعد انطلاق حراك شعبي طالب برحيل بوتفليقة وإلغاء حقه في رئاسة البلاد للمرة الخامسة، وفي خضمِّ الاحتجاجات الشعبية، أجبرَ قائد الأركان السابق، الفريق أحمد قايد صالح، الرئيسَ بوتفليقة على الاستقالة، ليصبح الفريق أقوى رجل في البلاد.
صعود الفريق قايد صالح رافقته مجموعة من القرارات الشعبيَّة لتهدئة الشارع الذي كان يغلي ويطالب برحيل جميع رموز السلطة التقليدية، ومن بين هذه الإجراءات، شنَّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف رجال بوتفليقة، منهم مجموعة من رجال الأعمال الأكثر ثراءً في البلاد.
بعضهم حصلوا على تخفيضات ضريبية وتسهيلات استثمارية تصل إلى مليارات الدولارات، منهم رجل الأعمال علي حدَّاد، المقرَّب من شقيق الرئيس، سعيد بوتفليقة، والذي تحصَّل على عقود العديد من مشروعات البنية التحتية، وكان أحد أبرز مموِّلي الحملات الانتخابية للرئيس بوتفليقة. وشهدت الجزائر اعتقال أغنى رجل فيها، رجل الأعمال يسعد ربراب، الذي ملكَ استثماراتٍ في العديد من القطاعات مثل البناء واستيراد المواد الغذائية والسيارات وغيرها، وتشمل القائمة أسماء أخرى من رجال الأعمال، جميعهم حصلوا على امتيازاتٍ وتسهيلاتٍ لاستثماراتهم بسبب علاقاتهم بعائلة بوتفليقة.
علي حداد، أحد رجال الأعمال المقربين من بوتفليقة الذين سُجنوا
اعتقال رجال الأعمال، بالإضافة إلى شخصيات سياسية بارزة مرتبطة بنظام بوتفليقة، من بينها رؤساء حكومة ووزراء وجنرالات سابقون، أعطى انطباعًا لدى قطاعات من الشعب الجزائري بأن هنالك تغييرًا حقيقيًّا تشهده البلاد، وليس مجرَّد تغييرٍ شكليٍّ، وزاد من شعبية الفريق قايد صالح لتصل إلى مستويات قياسية بوصفه بطلًا قوميًّا، رغم أنه قبل ذلك كان محسوبًا على نظام بوتفليقة أيضًا، وانتشر مصطلح «المنجل»، تعبيرًا عن موجة الاعتقالات، وشهدت جنازة أحمد قايد صالح في ديسمبر (كانون الثاني) 2019 مشاركةً كبيرة، رغم استلامه السلطة لفترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا.
مكافحة الجريمة والمخدرات.. طريق دويرتي لشعبية مضمونة
فور وصوله إلى السلطة في صيف سنة 2016، كان رئيس الفلبين الجديد، رودريجو دويرتي، يبحث عن قرارات سريعة ومباشرة تضمن له الحصول على شعبية فورية، فأطلق حربه الشهيرة على المخدرات والجريمة والتي ستثير جدلًا كبيرًا بين المؤيِّدين والمعارضين، خصوصًا في الأوساط الحقوقية الدولية التي انتقدت هذه الحملة بشدَّة.
مشاهد من الإعدامات الميدانية ضد مروِّجي المخدرات في الفلبين
من خلال تحريضه على القتل المباشر لتجَّار المخدرات ومرتكبي الجرائم، حتى دون الخضوع إلى الإجراءات القانونية التقليدية، أطلق دويرتي يد الشرطة ضد المشتبهين في تجارة المخدرات، وجعلهم منذ بداية حملته الانتخابية عدوَّه الأوَّل، كما حرَّض أنصاره عليهم وطلب منهم إعدامهم بصورةٍ مباشرةٍ، وقد استغل دويرتي وجود قنبلة في مدينة دافاو في سبتمبر (أيلول) من السنة نفسها، ليعلن أن البلاد تعيش حالةً من الفوضى وغياب القانون، ويُطلق يد الشرطة ضد كل من يشتبه في ممارسته الجريمة. كما أقرَّت الحكومة مكافآت لأفراد الشرطة على كل عملية قتل ضد مرتكبي الجرائم، تتراوح بين 200 دولار للمجرم البسيط لتصل إلى 100 ألف دولار لزعماء مافيا المخدرات.
الرئيس الفلبيني رودريجو دويرتي
وتتنازع الأطراف المختلفة حول الرقم الحقيقي للقتلى من جرَّاء الحرب ضد المخدرات التي أطلقها الرئيس دويرتي؛ إذ تقول المنظمات الحقوقية من بينها «هيومن رايتس ووتش» إن الرقم يصل إلى 12 ألف قتيل، بينما أشارت السلطات إلى أن الرقم يبلغ نحو 5 آلاف ما بين عامي 2016 و2019.
وفي الوقت الذي أثارت هذه السياسة إعجاب الكثيرين وخاطبت المشاعر الشعبوية التي تغازل فكرة «تطهير البلاد» وتنظيفها من المجرمين، فإن العديد من المنظمات الحقوقية انتقدت هذه السياسية الشعبوية، ورأت أنها تستهدف الفقراء والفئات الضعيفة والهشَّة، بالإضافة إلى التجاوزات القانونية الشنيعة التي ترتكبها أجهزة الأمن في حقِّ المتَّهمين. رغم ذلك فإن الإحصائيات تشير إلى أن هذه السياسة قد جعلت الرئيس دويرتي يحظى بشعبية استثنائية لدى شعب الفلبين؛ إذ أظهرت استطلاعات الرأي أنه يحظى بشعبية تناهز 90% لدى شعبه.
وأظهرت استطلاعات الرأي أن ثمانية من أصل 10 فلبينيين راضون عن هذه الإجراءات، رغم أنها مصدومة بالإعدامات المباشرة التي تقوم بها قوَّات الشرطة ضد المشتبه في تورُّطهم في قضايا المخدرات. ورغم الانتقادات الدولية العديدة ضد هذه السياسة، فإن رودريجو دويرتي يبدو مصرًّا عليها، خصوصًا وأن شعبيته قد وصلت درجات قياسية بفضلها، كما أن العديد من الفلبينيين يمتدحون هذه السياسة ويرون أنها وفَّرت مناخًا من الأمن العام.