عالم

لماذا تغيب النساء عن “جنة” التكنولوجيا؟

في مجتمعنا المعاصر اليوم، يعتبر الاندماج الاجتماعي والمساواة بين الرجال والنساء قضيتين رئيسيتين على مستوى العالم، ومع ذلك لا تزال العديد من قطاعات الأعمال يهيمن عليها الرجال، ولا يخرج قطاع التكنولوجيا عن هذا الإطار العام، بل إن هذا القطاع الحيوي يبدو متخلفا أكثر من القطاعات الأخرى عندما يتعلق الأمر بتوظيف النساء والإبقاء عليهن.

وحسب دراسة أعدتها مؤسسة “ديلويت غلوبال” (Deloitte Global)، فإن 23% فقط من النساء يعملن في هذا القطاع، وهو رقم يقول الكثير عن التمييز ضد المرأة في عالم التقنية، ويمكننا أن نسأل بسهولة عن هذا الانخفاض الكبير، والأسباب الكامنة خلفه؟

هناك 23% فقط من النساء يعملن في قطاع التكنولوجيا (شترستوك)

النساء المنسيات في العالم الرقمي

وتسلط إيزابيل كوليت، عالمة الكمبيوتر والباحثة في جامعة جنيف، الضوء على هذا الموضوع في كتابها “النساء المنسيات في العالم الرقمي” الصادر عام 2019، وتؤكد أن النساء حصلن على 40% من شهادات علوم الحاسوب في ثمانينيات القرن الماضي في أوروبا والولايات المتحدة، ومع ذلك، انخفضت هذه النسبة الآن إلى نحو 25% فقط، ومن الصعب فهم سبب ذلك، علما بأن التاريخ مليء بالنساء اللواتي اخترعن أو عملن على ابتكار التطورات التكنولوجية التي أصبحت الآن جزءا من حياتنا اليومية.

فأول حاسوب حديث -الذي اخترعه آلان تورينغ عام 1940- كان مبنيا على الأسس العلمية والنظرية التي ابتكرتها الباحثة والعالمة الإنجليزية، أدا لوفليس، التي تعتبر أول مبرمجة حاسوب في العالم.

والنجمة السينمائية الأميركية من أصل أسترالي هيدي لامار، التي اشتهرت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، كانت أيضا عالمة حاسوب متميزة، وحصل عملها عن “نظم الاتصالات السرية” على براءة اختراع عام 1942، وهو الأمر الذي قاد لاحقا إلى اختراع شبكة “واي فاي” (Wi-Fi) ونظام “جي بي إس” (GPS)، و”بلوتوث” (Bluetooth).

ومنذ ذلك الحين، غزت العديد من النساء صناعة التكنولوجيا وغيّرن وجه عالمنا الحديث إلى الأبد، وذلك كما ذكرت كوليت في كتابها.

وتنجذب حاليا المزيد من النساء للعمل في قطاع التكنولوجيا على الرغم من أن 3% منهن فقط قلن إنه كان خيارهن الأول، كما ذكرت الباحثة نيللي بوليزو في بحث لها نشرته منصة “مون شوت” (MoonShot) العام الماضي، وقد يكون هذا بسبب نقص المعلومات اللاتي يحصلن عليها من أقسام ومديري التوظيف في الشركات، أو قلة النساء العاملات في هذه الأقسام، أو حتى عدم الرغبة في التغيير.

وفي هذا السياق، تقول مديرة التدقيق الرقمي في شركة “غلوبال ساينز”، سناء سبيسز، إن “بعض جوانب المهنة تبقى غامضة حتى بالنسبة للقائمين على عملية التوظيف نفسها”.

وتصف عملية توظيفها في الشركة “تلقيت مكالمة هاتفية غير متوقعة من وكالة توظيف لوظيفة ضابط فحص وفرز. في ذلك الوقت، لم يكن أحد يعرف ماذا يعني هذا المسمى الوظيفي، وحين استفسرت من الشخص الذي اتصل بي قال لي: أعلم أنه يبدو غامضا بعض الشيء، وهو ليس شيئا يمتلك الكثير من الناس خبرة سابقة فيه، لكننا نعتقد أنك مناسبة تماما له”.

وأضافت أنها ذهبت للمقابلة بدافع الرغبة في التغيير وتجربة شيء جديد، خصوصا بعد قضاء عدة سنوات في وظيفة لم تكن تحبها.

الأفلام السينمائية التي تصور شبابا عباقرة ومهووسين بالتكنولوجيا ربما لم تساعد بجذب النساء للتكنولوجيا (شترستوك)

المستقبل للنساء

وكانت النساء دائما جزءا من قوة العمل في قطاع التكنولوجيا، وكن من المبتكرات الأوائل في هذا المجال، لكن الحقيقة هي أن نسبة النساء إلى الرجال انخفضت بشكل كبير، وكانت التسعينيات نقطة تحول أساسية في هذا التراجع، ووفقا لإيزابيل كوليت في كتابها “النساء المنسيات في العالم الرقمي”، فإن جنون تكنولوجيا المعلومات وصعودها جعلها حصة رئيسية للشركات الناشئة الطموحة التي بدأت في توظيف الرجال حديثي التخرج من الجامعات.

وفي غضون ذلك، ظهرت أجهزة الحاسوب الشخصية، التي غالبا ما كانت تسوق حصريا للآباء والأبناء، وساعد في ذلك انتشار الأفلام السينمائية التي تصور شبابا صغار السن، وأولادا عباقرة مهووسين بالتكنولوجيا يبتكرون أشياء جديدة في مرآب بيوتهم ليفوزوا بالشهرة والمال في نهاية الفيلم. وربما لم يساعد كل هذا في جذب النساء نحو صناعة التكنولوجيا.

ومع ذلك، يبدو أن هذه الصناعة الآن تعمل على سد الفجوة بين الجنسين، وتظهر دراسة مؤسسة “ديلويت غلوبال” أن شركات التكنولوجيا الرائدة في العالم تسعى إلى توظيف ما يقرب من 33% من النساء في القوة العاملة الإجمالية بحلول نهاية عام 2022، بزيادة قدرها 2% عن عام 2019، كما سيزداد عدد النساء في المناصب العليا المتعلقة بالتكنولوجيا على الرغم من أنه يميل إلى التخلف عن النسبة الإجمالية للنساء بنحو 8%، كما أوضحت الدراسة.

ونرى أيضا أن عدد النساء في أكبر 8 شركات تكنولوجيا في أميركا -بينها “آبل” (Apple) و”مايكروسوفت” (Microsoft) و”أمازون” (Amazon) و”فيسبوك” (Facebook)- زاد بنسبة 238% أسرع من الرجال، كما ذكر أنتوني إيتن، مدير التسويق لشركة “غلوبال ساين” في كل من فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ في مقالة له مؤخرا.

وهناك الآن 3 نساء في هذه الشركات يعتبرن من بين أقوى 15 امرأة في مجال التكنولوجيا في العالم، حسب تصنيف مجلة “فوربس” (Forbes) العالمية، وهن: شيريل ساندبرغ، رئيسة العمليات في فيسبوك، وميغ ويتمان، الرئيسة التنفيذية لشركة “إتش بي” (HP)، وسوزان وجيكي، الرئيسة التنفيذية لموقع “يوتيوب” (YouTube)، كما ذكر إيتن في مقالته.

ويسلط التصنيف الضوء على شركات مثل “غيرلز هو كود” (Girls Who Code)، التي أسستها ريشما سوجاني والتي تهدف إلى تمكين المرأة من خلال التكنولوجيا، و”غولدي بوكس” (GoldieBox) التي أسستها ديبي ستيرلنغ والتي تروج للهندسة وألعاب البناء للفتيات.

وتساهم ابتكارات مثل هذه في المساهمة بمكافحة الفجوة بين الجنسين بشكل أكبر من أي وقت مضى.

وسد الفجوة بين الجنسين أمر مهم في عالم التكنولوجيا. ولكن لا تزال هناك عقبات كثيرة في الطريق، وأفضل طريقة لتشجيع النساء على الانضمام إلى قطاع التكنولوجيا ستكون بلا شك من خلال تقديم المعلومات اللازمة والتوجيه المهني والكثير من الحضور.

بعض الجامعات بدأت برامج تشجع الطالبات على الالتحاق بمهن العلوم والتكنولوجيا (غيتي)

مبادرات عالمية رائدة

في السنوات الأخيرة، أنشئت العديد من المشاريع والجمعيات لتقديم المشورة والدعم للمرأة في حياتها المهنية.

ويبدأ هذا في الجامعة ببرامج تشجع الطالبات على الالتحاق بمهن العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، واستثمرت 4 جامعات أوروبية كبرى في هذا المجال وهن: جامعة “كانتربيري” (Canterbury) في إنجلترا، وجامعة “برنو” (BRNO) للتكنولوجيا في جمهورية التشيك، وجامعة “إي تي إتش” (ETH) في زيورخ، وجامعة “تامبيري” (Tampere) في فنلندا، ويصل الآن معدل تخرج الإناث من هذه الجامعات ما نسبته 35%.

وفي هذا السياق، تقول كالي فريتش مديرة تسويق المنتجات في شركة غلوبال ساينز إنه “وقت ممتاز لبدء العمل في هذا القطاع الوظيفي المثير والحاسم، وهناك فرص لا حصر لها للتعلم والنمو”.

ولدعم النساء اللواتي يبحثن عن وظائف في صناعة الأمن السيبراني، تعتبر جمعية “النساء في الأمن السيبراني” (WiCys) مصدرا ممتازا للتوجيه. وتأسست الجمعية عام 2012، وتصف نفسها بأنها “مجتمع عالمي من النساء والحلفاء والدعاة، ونحن نسعى جاهدين للجمع بين النساء الموهوبات وتشجيع شغفهن ودفعهن نحو العمل في مجال الأمن السيبراني، كما نجمع بين النساء المحترفات والطموحات والناجحات في مجال الأمن السيبراني حول العالم للتعاون وتبادل المعرفة والخبرات، ونخلق الفرص أمام نساء جديدات راغبات في العمل في هذا المجال من خلال برامج التطوير المهني والمؤتمرات ومعارض العمل”.

وإضافة إلى ما سبق، أطلق الاتحاد الأوروبي برنامجه الخاص للتوظيف “ومان تيك إي يو” (Women TechEU) الذي يوصف بأنه “برنامج جديد للاتحاد الأوروبي لدعم الشركات الناشئة عالية التقنية التي تقودها النساء، ومساعدتهن على أن يصبحن بطلات التكنولوجيا الفائقة في الغد”.

ويشهد قطاع التكنولوجيا ازدهارا عالميا، وتحرز النساء تقدما مهما في كل يوم، ونجدهن مديرات ومطورات ومبتكرات، ويكسرن الصورة النمطية على طول الطريق، ولكن كل هذا لا ينفي حقيقة أن المرأة لا تزال تتعرض للتمييز حتى اليوم، خصوصا في الرواتب والترقيات الوظيفية، ورغم كل التقدم الذي أحرزته النساء، فلا يزال أمامهن طريق طويل نحو المساواة.

مقالات ذات علاقة

زر الذهاب إلى الأعلى