عالم

مال سائب.. الأوقاف في مصر من دعم المجتمع إلى تلقي التبرعات

في العشر الأواخر من شهر رمضان الفائت قرر وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة حظر صلاة التهجد، ولأن المصريين كانوا متشوقين إلى ممارسة شعائرهم الدينية هذا العام بحرية أكبر، بعد تراجع فيروس كورونا الذي حرمهم من هذه الشعائر على مدى العامين الماضيين، فقد واجه القرار غضبًا شعبيًّا كبيرًا، وبعد تراجع الوزارة جزئيًّا عن حظر صلاة التهجد، والسماح بها ابتداءً من من ليلة 27 رمضان، تحوَّلت موجة الغضب الشعبي إلى سخرية من قرارات الوزارة التي لا تحمل أي منطق متماسك.

وفي ظل كل هذا اللغط، كان الضوء مُسلَّطًا بشكل أساسي على وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، صاحب هذه القرارات، وأحد أقدم أعضاء الحكومة، فهو يشغل هذا المنصب منذ يوليو (تموز) 2013، مع استدعاء لقضايا الفساد في الوزارة التي دار الحديث عنها خلال السنوات الماضية، وارتبطت باسم الوزير نفسه.

تنظيم ثم تأميم.. الأوقاف من محمد علي إلى عبد الناصر

ربما يكون من الضروري في البداية، التعرف إلى ماهية الأوقاف، قبل الخوض في تاريخ تطورها في مصر، فالأوقاف جمع وقف، وهو – في الشريعة الإسلامية- عبارة عن مال يُخرجه صاحبه من ملكه، ويجعله على حكم ملك الله تعالى، ويُخصِّص ريعه للإنفاق في وجوه البر الخاصة والمنافع العامة، وطبقًا لتعريفه الاصطلاحي، فهو: حبس العين عن أن تكون مملوكة لأحد من الناس، وجعلها على حكم ملك الله تعالى، والتصدق بريعها على جهة من جهات الخير في الحال أو في المال.

ولقد ارتبط بنظام الوقف – عبر الممارسة الاجتماعية له على طول تاريخه- مجموعة كبيرة من الأنشطة والمؤسسات والمشروعات التي عملت في صميم البناء الاجتماعي، وغذَّت نسيج شبكة العلاقات الإنسانية في دوائرها الأولية (حول الأسرة) ودوائرها المتوسطة (حول الجماعة أو الطائفة من أهل حرفة من الحرف، أو حي من الأحياء… إلخ) وفي دائرتها العليا (حول المجتمع أو الأمة ككل)، ومثل هذه الشبكة بدوائرها –المتداخلة غير المنفصلة- لا غنى عنها لأي مجتمع، حتى يتماسك ويقوى على البقاء والتقدم.

فعبر الوقف نشأت المساجد، ومعاهد للتعليم من الكُتَّاب إلى المدارس والجامعات، وبه تأسست مستشفيات للعلاج المجاني، وصيدليات لتقديم الدواء بلا مقابل، وشُيدت في المدن تكايا وملاجئ لإيواء من لا مأوى لهم؛ وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم وتعليم منْ هو في سن تعليم، وبُنيت مقابر الصدقة، ووُزعت «خيرات» على الفقراء والمساكين والأيتام؛ لإعاشتهم والترويح عنهم في مناسباتهم الخاصة، وفي المواسم والأعياد العامة.

وقد ارتبطت نشأة الوقف الإسلامي في مصر بنشأة نظام «الولاية» بعد الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص، ويذكر الدكتور إبراهيم البيومي غانم، أستاذ العلوم السياسية، ومؤلف كتاب «الأوقاف والسياسة في مصر»، أن «جامع عمرو بن العاص» هو أول وقف في مصر الإسلامية، وأن «قيسبة بن كلثوم التحبيبي» قد تصدَّق به ليكون مسجدًا للمسلمين، في عام الفتح نفسه، 21هـ –641م.

Embed from Getty Images

محمد علي

ومنذ ذلك التاريخ، كانت أموال الوقف الخيري مطمعًا لكثير من الحكَّام، حتى جاء محمد علي باشا، والذي سعى إلى تسخير كافة الموارد التي توجد على أرض المحروسة، من أجل تنفيذ مشروعه الأكبر بتأسيس مصر الحديثة، فربط الوقف بالسلطة المركزية وأخضعه للرقابة الإدارية، وبعد ذلك فرض الضرائب واستحوذ على الأوقاف التي لم يُثبت ورثة من كانوا يملكونها.

إذ أحدث محمد علي باشا تغييرات واسعة على نظام الوقف، كانت تعد ثورة في عالم الوقف، واستولى على أراضي «الأوقاف الخيرية» في عام 1812، وكانت قُدرت حينئذ بـ600 ألف فدان، ثم فرض الضرائب على أراضي الوقف التي كانت فيما سبق معفاة من الضرائب.

وفي عام 1835، أنشأ محمد علي «هيئة الأوقاف»، وتحددت اختصاصات ذلك الديوان بموجب لائحة رسمية تحت عنوان «لائحة ترتيب عملية الأوقاف بالثغور والبنادر» ولكن سرعان ما أمر محمد علي بإلغاء هذا الديوان عام 1837.

وفي 1851 أمر عباس باشا الأول بإعادة العمل بديوان عموم الأوقاف وأصدر أمرًا آخر لتنظيم عمل الديوان، وفي عام 1913 تحوَّلت من ديوان إلى نظارة [وزارة]، وفي عام 1953 صدر قانون قضى بنقل الإشراف على المساجد الموقوف عليها وقفًا خيريًّا إلى الوزارة، ثم صدر القانون رقم 157 لسنة 1960 الذي ضم جميع المساجد الأهلية للوزارة.

ويشير كتاب «الأوقاف والسياسة في مصر»، إلى أن المحطة الأبرز في تاريخ الوقف –بعد محمد علي باشا-  كانت بعد عام 1952، وتحديدًا في الأعوام بين 1952 و1957، والتي انتهت إلى دمج جميع الأوقاف الخيرية ووضعها تحت إدارة حكومية ممثلة في الوزارة؛ والتي منحها القانون سلطة تغيير مصارف تلك الأوقاف؛ والحجة كانت «توجيهها إلى جهات بر أَوْلى من تلك التي حدَّدها أصحاب الوقف الأصليون».

وكانت هذه الإجراءات بداية تفكيك أصول الأوقاف، من أراضي زراعية وعقارات مبنية وأراضي فضاء، واتجهت الوزارة إلى توظيف موارد الوزارة – بعد تغيير مصارفها- بقرارات إدارية لا رقيب عليها، وساعدها في ذلك إلغاء المحاكم الشرعية عام 1955، والتي كانت توفر الحماية القضائية لنظام الوقف.

وبعدما تنازلت وزارة الأوقاف عن مدارسها لوزارة التربية والتعليم، ومستشفياتها لوزارة الصحة، وملاجئها ودور أيتامها لوزارة الشئون الاجتماعية، صارت المبالغ المرصودة للإنفاق على تلك المؤسسات بلا مصارف واضحة، فراحت الوزارة تستغلها للإنفاق على مشروعات خارجية في البلدان الإسلامية في أفريقيا وآسيا، ضمن دوائر السياسة الخارجية المصرية التي كان قد حدَّدها جمال عبد الناصر في كتابه «فلسفة الثورة».

والخلاصة أن نظام يوليو أمم تدريجيًّا نظام الأوقاف، من أجل تعبئة الموارد الخاصة به لخدمة سياساته الداخلية والخارجية، وذلك «دون مراعاة لخصوصية أموال الأوقاف، أو اكتراث بالحصانة التي أسبغتها عليها الشريعة الإسلامية»، وفق تعبير الدكتور إبراهيم البيومي غانم.

البحث عن أموال الأوقاف.. حين يتلقى الأغنى التبرعات

يتعامل النظام المصري الحالي مع أموال الأوقاف بالمنظور نفسه لتعامل «دولة يوليو» معها في السابق، ولكن لغرض مختلف، فإذا كانت رؤية عبد الناصر في الماضي ترمي إلى الاعتماد على الذات وتوسيع دوائر السياسة الخارجية المصرية عن طريق أموال الأوقاف، فإن النظام المصري يحاول السيطرة على أموال الأوقاف لتوفير السيولة المالية، وحل أزماته الاقتصادية.

Embed from Getty Images

وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة

وفي ظل بحث النظام المصري على أي ثغرة للسيطرة على النظام المالي في مصر، وحصر أموال المصريين ضمن منظومة الشمول المالي، كان لا بد أن تكون وزارة الأوقاف في مركز خطط النظام، وهي أغنى وزارات مصر.

فوفقًا لما أعلنه رئيس هيئة الأوقاف في العام 2018، تمتلك الوزارة أصولًا بقيمة تريليون و37 مليارًا و370 مليونًا و78 ألف جنيه، وتتوزع بين أملاك زراعية تقدر بنحو 759 مليار جنيه، وثروة عقارية تقدر بنحو 137 مليار جنيه، وأرض فضاء قدرت قيمتها في العام 2018 بنحو 141 مليار جنيه، بجانب المساهمة في 20 شركة وبنكًا ومشروعات أخرى.

وفي مطلع فبراير (شباط) 2022، أعلنت وزارة الأوقاف في بيان رسمي أن: «هيئة الأوقاف تواصل إنجازاتها في مجال الاستثمار وتحقيق الأرباح والإيرادات، حيث حققت رقمًا قياسيًّا جديدًا في التحصيل خلال يناير (كانون الثاني) 2022 بلغ 156 مليون جنيه»، وأوضح البيان أن الهيئة حققت أعلى عوائد وأرباح خلال النصف الأول من العام المالي 2021/ 2022 مقارنةً بالفترة نفسها من أي عام ماضٍ منذ تأسيسها.

وبدأ تطلع الدولة لأموال الأوقاف في عام 2016، حينما صدر القرار الرئاسي رقم 300 لسنة 2016، بتشكيل لجنة لحصر أملاك هيئة الأوقاف المصرية، من الأراضي والمباني والمشروعات والمساهمات في شركات، وذلك لتقييم عوائد الاستثمارات واتخاذ اللازم لتعظيم أملاك الأوقاف.

ثم جاء القرار رقم 274 لسنة 2016 بشأن تحصين مال الوقف وحمايته، والذي قضي بالتصرف في بعض أصول الوقف الخيري بناءً على تقديرات حكومية، سواء بالبيع أو المزاد العلني أو الاستبدال، لصالح بناء مشروعات تحتاجها الدولة، وفي يناير 2017 طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باستثمار أموال الأوقاف في المشروعات القومية.

وفي عام 2016، اجتاحت الوزارة موجة بيع غير مسبوقة، إذ باعت جزءًا كبيرًا من أملاكها عبر مزادات في كل المحافظات تقريبًا، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحفي، عبد الناصر سلامة، في مقاله المنشور في سبتمبر (أيلول) 2016 في صحيفة المصري اليوم، بعنوان «للبيع… من مصر حتى اليونان»، مُشيرًا إلى أنه في خلال فترة وجيزة أجريت مزادات في 22 محافظة لبيع أراض متعددة ومحال تجارية ووحدات سكنية وجراجات كانت تتبع وزارة الأوقاف.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، نشرت صحيفة «السفير العربي» تحقيقًا حول التطور الأبرز الذي شهدته الوزارة مؤخرًا، وكان بعنوان «الأوقاف المصرية في قبضة السلطة»، وفيه جرى الحديث عن قرار رئيس الجمهورية الصادر في سبتمبر 2021، والقاضي بإنشاء «صندوق وقف مصر الخيري»، بهدف استثمار أموال هيئة الأوقاف المصرية في مشروعات الدولة، بشكل رسمي.

وقضى القرار بأن موارد الصندوق ستتكون من فوائض حسابات اللجنة العليا الإسلامية والاجتماعية، وصناديق النذور، وصناديق إعمار المساجد، وفوائض ريع الأوقاف، وسائر التبرعات والهبات والمنح النقدية أو العينية الطبيعية أو الاعتبارية. ومنح القانون وزير الأوقاف المصري سلطة التصرف في أموال الصندوق، والتي تقع في نطاق «نشر الدعوة الإسلامية بالداخل والخارج، ودعم أجهزة الدولة في إقامة وتطوير المشروعات الخدمية والتنموية والبنية التحتية وغيرها من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية».

وفي ظل الحديث عن كل هذا الكم من الأموال، التي باتت تحت تصرف الدولة ومشروعاتها، راحت وزارة الأوقاف تنافس الجمعيات الخيرية على أموال التبرعات، وذلك من خلال مشروع «صكوك الإطعام»، والذي يعتمد على جمع الأموال من المصريين لإطعام الفقراء. وهو ما أثار بدوره عدة ملاحظات:

  1. هناك تعارض واضح بين اتجاه الوزارة لقبول التبرعات لاستخدامها في تمويل مشروعات خيرية، بينما منطقيًّا، من المفترض أن تستغل الوزارة دخولها الضخمة في دعم هذه المشروعات الخيرية من الأساس، فبدلًا من أن تكون الوزارة مصدر التبرعات أصبحت متلقية لها.
  2. تشير التقارير إلى أن هناك العديد من جمعيات المجتمع المدني التي جرى تكبيل قدرتها على جمع التبرعات، للقيام بدورها المجتمعي، وهي الجمعيات التي تعتمد بالأساس على التبرعات دون أن يكون لها أي مصدر دخل آخر، بل راحت الوزارة تنافس هذه الجمعيات على أموال المتبرعين.
  3. يرى البعض أن هذا التوجه إنما هو «انحراف» من جانب الوزارة عن دورها الأساسي في رعاية الوقف وتنميته والاستفادة به.

ربما لكل ما سبق، نجد أن الوزير محمد مختار جمعة هو أحد رجال النظام المخلصين، والذي ما زال على رأس الوزارة منذ تشكل النظام الحالي عام 2013، ولم تنجح موجات غضب الرأي العام أو قضايا الفساد في زحزحته عن منصبه، فقد أكَّد فريد الديب، محامي الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، في يناير 2018 أن الوزير محمد مختار جمعة متورط في القضية المعروفة إعلاميًّا بـ«رشوة وزارة الزراعة».

كذلك جرى الحديث مؤخرًا عن استيلائه على جهد علمي أشرف عليه الوزير السابق، محمود حمدي زقزوق، والذي قام خلال سنوات توليه الوزارة، بإصدار عدة موسوعات إسلامية متخصصة، وترجمة لمعاني القرآن الكريم لسبع لغات عالمية، وقد قام مختار جمعة بحذف اسم زقزوق من أغلفة الكتب، وكتب اسمه هو، الأمر الذي شرحه زقزوق بنفسه في مذكراته «رحلة حياة».

مقالات ذات علاقة

زر الذهاب إلى الأعلى