من الصين إلى أمريكا.. أعمال أدبية جريئة أذت أصحابها

يُقال إن الكتابة الحذرة كتابة ميتة؛ ومن ثم لكي تحيا الكتابة وتصير عملًا أدبيًا خالدًا عليها أولًا أن تلامس الواقع وتشتبك معه، أن تناقش القضايا السياسية والاجتماعية، وأن تعبر عن ما يؤمن به مؤلفها بشيء من الجرأة والتحرر.

هذا الأمر يجعل من الكتابة مهنة سامية تحمل بداخلها بعض الخطورة، فحين يعبر الكاتب عن آرائه صراحة بعد تفكير عميق، فإنه يعلم جيدًا أنها ستخضع للتصنيف وأن مسيرته الأدبية، وربما حريته الشخصية، قد تكون في خطر داهم إن اعتبرت السلطات في بلاده أن هذه الآراء المُعبر عنها في العمل الأدبي إما راديكالية للغاية أو تهدف إلى العبث بقيم المجتمع والإخلال به.

وعلى الرغم من كل هذه المخاطر، لا يملك الأدباء سوى التمسك بحقهم في حرية التعبير، حتى وإن قامروا بمسيرتهم الأدبية وحريتهم الشخصية. نعرض هنا قصص ثلاثة كتاب تمسكوا بحقهم في حرية التعبير عن آرائهم فتعرضوا للسجن وأصبحت مسيرتهم الأدبية على حافة الخطر.

نور الدين محمد.. أديب الأويجور الذي مات في سجون الصين

أن يكون لديك روح حرة هو شيء لا يمكنك شراؤه أو منحه لأحدهم، وهو أمر لا يتحقق فقط من خلال الصلاة والدعوات المستمرة.. أشعر أن الروح الحرة هي ما يعوز ذلك الحمام المثير للشفقة، فبدونها لا تستقيم الحياة ويضيع معناها.. ربما نسوا أن لديهم أجنحة وربما لا يريدون مغادرة ذلك القفص الذي اعتادوا عليه كثيرًا. * نور محمد ياسين -« الحمامة البرية»

في عام 2004، نشر نور محمد ياسين، وهو كاتب وشاعر من الأويجور القاطنين بمنطقة شينجيانج أويجور في الصين، قصة قصيرة بعنوان «الحمامة البرية» في مجلة كاشجر الأدبية، فحكمت السلطات الصينية عليه بالسجن لمدة 10 أعوام في عام 2005.

10 أعوام كاملة قُضي على نور محمد ياسين قضاؤها في السجن، وثلاثة أخرى قضاها رئيس تحرير المجلة، بسبب قصته التي تحكي عن حمامة برية تطير وحدها لكي تستكشف العالم من حولها فتذهب إلى أرض ليست بالبعيدة عن موطنها الأصلي، لتجد بها سرب حمام تربى على الخضوع ولا يعرف للحرية معنى.

في محاورتها مع ذلك السرب، تندهش الحمامة البرية من عدم قدرة تلك الحمائم على الطيران بعيدًا رغم تمتع معظمها بالشباب وامتلاكها لأجنحة قوية تستطيع الطيران بها حتى آخر الدنيا بعيدًا عن الإنسان الذي يتربص بها ويقيد حريتها.

وأثناء ذلك، تتذكر الحمامة البرية محادثاتها مع أمها عن ذلك الإنسان الذي لا تنتهي حيله ولا تنضب مكائده، ذلك الكائن الطماع الوحشي الذي يريد أن يسيطر على أرض الحمام البري التي توارثوها عن أجدادهم، ذلك الكائن الذي لم يكتف باحتلال أرضهم، بل يسعي بكل السبل لمحو تراثهم وتجريدهم من ذاكرتهم وهويتهم.

ويزيد من اندهاش الحمامة البرية أن الحمائم الأخرى – على الرغم من إدراكها لما يحاول الإنسان فعله – لا تبذل جهدًا كافيًا للتحرر من قبضته، حتى أن قادتها لا يشجعون الحمام الشاب على الطيران بعيدًا والفرار من ذلك الأسر. فقط الحمام البري هو من لا يرضى الأسر من بين سائر الحمام في المنطقة، والسبب وراء ذلك بسيط للغاية وهو أن الحمام البري يعرف معنى الحرية ويقدرها ولا يمكنه أبدًا أن يعيش في الأسر ولو كلفه ذلك حياته.

تتذكر الحمامة البرية أيضًا حديث والدتها عن والدها الذي ظل يضرب برأسه جدران قفصه حين أُسر حتى تخضبت قضبان القفص بدمائه ومات، فتقرر أن تحذو حذوه في آخر القصة حين تتعرض هي الأخرى للأسر فتأكل ثمرة مسممة لتموت حرة كوالدها الذي ارتضى دفاع ذلك الثمن الغالي مقابل حصوله على الحرية.

حين نُشرت هذه القصة لأول مرة اعتبرتها السلطات الصينية قصة مسيئة تحاول إدانة الحكومة الصينية وتشبهها بالإنسان المعتدي الوحشي الذي يحتل أرض الحمام البري ويقيد حريته، فكانت النتيجة أنها قررت اعتقال الكاتب ومحاكمته بتهمة التحريض على انفصال الأويجور عن الصين.

وقد صادرت السلطات الصينية، حين اعتقلت نور محمد ياسين، حاسبه الشخصي الذي احتوى على ما يقرب من 1600 قصيدة، ومقالة، وقصة ورواية واحدة غير مكتملة، كما حاكمته أمام محكمة مغلقة لم يسمح له فيها بتوكيل محام للدفاع عنه. وتمامًا كحمامته البرية، لم يستطع نور محمد ياسين تحمل الأسر والتعذيب الشديد الذي كان يتلقاه على يد السلطات الصينية في محبسه فمات ليحرره موته للأبد من مرارة الأسر الذي لم يكن ليستطيع تحمله أبدًا لأنه عرف معنى الحرية.

دارين تاتور.. قاوم يا شعبي

قاوم يا شعبي قاومهم/ في القدس/ في القدس ضمدت جراحي ونفثت همومي لله/ وحملت الروح على كفي/ من أجل فلسطين العرب/ لن أرضى بالحل السلمي/ لن أُنزل أبدًا علم بلادي/ حتى أنزلهم من وطني/ اركعهم لزماني الآتي/ قاوم يا شعبي قاومهم ** الشاعرة الفلسطينية دارين تاتور – قصيدة «قاوم يا شعبي»

ننتقل هنا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحديدًا إلى بلدة الرينة بمنطقة الجليل، حيث نشأت الشاعرة الفلسطينية دارين تاتور، والتي حكمت عليها السلطات الإسرائيلية بالسجن لمدة خمسة شهور وألزمتها بالإقامة الجبرية في منزلها بعد الإفراج عنها بسبب قصيدة نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان «قاوم يا شعبي».

مظاهرات للمطالبة بالإفراج عن دارين تاتور

لم تكن دارين تاتور مشهورة في الأوساط الأدبية ولم تكن تمتلك قاعدة كبيرة من القراء قبل أن تنشر قصيدتها تلك، ولم تكن تعلم أن إلقاءها لقصيدة مصحوبة بصور فوتوغرافية لأبناء شعبها وهم يقاومون الاحتلال على موقع يوتيوب سوف يعرضها للمحاكمة ويسلبها حريتها.

فحين أدى العنف الذي تمارسه القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني إلى مقتل 199 فلسطينيًا في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015، لم تجد دارين سوى الكلمات لتعبر بواسطتها عن غضبها الشديد تجاه عمليات القتل الخارجة عن نطاق القضاء بحق الشباب الفلسطينين من حولها.

ويبدو أن تلك القصيدة المنشورة من قبل شاعرة مغمورة – وقتها – على موقع إلكتروني قد أغضبت السلطات الإسرائيلية بشدة، فأصدرت مذكرة اعتقال بحقها في ذات الشهر بتهمة التحريض على العنف والانتماء لجماعة «إرهابية»، وعلى الرغم من أن دارين قد أكدت أثناء محاكمتها على أنها لم تكن تقصد أي نوع من التحريض على أعمال عنف، فقد اتهمتها السلطات الإسرائيلية بالتحريض على أعمال عنف تسببت في موجة من عمليات الطعن، والدهس، وإطلاق النار نفذها في الغالب فلسطينيون أو عرب إسرائيل.

في الحقيقة كانت دارين تعلم أن تهمتها الأساسية هي أنها فلسطينية، ولذلك لم تندهش من الحكم الصادر ضدها بالسجن ومن بعده الإقامة الجبرية التي من شروطها حظر الدخول على الإنترنت، وارتداء سوار إلكتروني على الكاحل، وعدم الخروج من المنزل إلا بين الساعة 9 صباحًا و7 مساء شريطة أن يرافقها أصدقاء أو أقارب توافق عليهم المحكمة.

وحين ظنت السلطات الإسرائيلية أنها قد انتصرت على دارين، كان العكس هو الصحيح، فقد أصبحت معروفة على المستوى الدولي وطالب أكثر من 300 من الكتاب والشعراء المشهورين حول العالم قضيتها وأدانوا مصادرة السلطات الإسرائيلية للحق في حرية التعبير.

أميري بركة.. «أحدهم فجر أمريكا»

من الذي كان يعرف أن مركز التجارة العالمي سيتفجر/ من الذي أخبر 4000 إسرائيليًا يعملون في البرجين أن يلزموا منازلهم ذلك اليوم.. من يجني المال من الحروب؟/ من يصنع الخوف وينشر الأكاذيب؟/ من .. من .. من؟

ننتقل هنا من الصين والأراضي المحتلة إلى بلد تُعرف نفسها بأنها دولة ديموقراطية تكفل حرية الرأي والتعبير، إنها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث من المستبعد أن يتعرض الكاتب للسجن بسبب أعماله الأدبية أو آرائه الشخصية ولكن من الوراد جدًا أن يُنبذ وتتدمر مسيرته الأدبية.

 الشاعر الأمريكي أميري بركة

في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، دوت أصوات انفجارات هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية وانهار برجا التجارة العالميان مخلفين آلاف القتلى والجرحي ومنذرين بتغير الأوضاع للأبد، ليس في أمريكا فقط بل في العالم بأسره.

«كان هذا الهجوم حادثًا وحشيًا»، هذا أمر قد اتفق عليه معظم الناس، ولكن البعض اختلف حول هوية منظم الهجوم، ففي حين أكدت الولايات المتحدة أن تنظيم القاعدة هو من يقف وراء هذا الاعتداء أصر البعض على تورط أطراف أخرى لم يعلن عنها. وقد تبنى الشاعر الأمريكي أميري بركة وجهة النظر الأخيرة، وهو ما كلفه كثيرًا على الصعيد المهني ووضع مسيرته الأدبية كلها في خطر داهم.

في قصيدته «أحدهم فجر أمريكا» ألقى بركة اللوم كله على ما أسماه قوى الشر عبر التاريخ، وأخذ يتساءل على طول القصيدة عن هوية الفاعل والمستفيد الأوحد من ذلك الدمار الذي طال أمريكا وسيطال دول أخرى فيما بعد. فهو قد ذكر عدد من الأحداث المهمة مثل الهولوكوست واغتيال مالكوم إكس وغيرها من الأحداث المفصلية في تاريخ العالم وظل يتساءل عن المستفيد حتى أتى على ذكر غياب حوالي 4 آلاف عامل إسرائيلي عن أعمالهم في ذلك اليوم، وبدأ يتساءل عن السبب الحقيقي وراء ذلك الأمر، وهنا كانت الطامة الكبرى.

فقد اتُهم بركة بمعاداة السامية وانقلب عليه معجبوه وكالوا له الانتقادات وألغي منصبه شاعرًا رسميًا لولاية نيوجرسي وانخفضت مبيعات كتبه بشكل ملحوظ وندر ظهوره في البرامج التلفزيونية والإذاعية. ولكن هل ندم أميري بركة على قصيدته التي كادت أن تمحو مسيرته الطويلة؟ الإجابة بحسبه هي لا، فقد صرح بركة أنه لم يخالطه ولو شعور بسيط بالندم لأنه ببساطة يقول الحقيقة مهما كلف ذلك من ثمن.

Exit mobile version