الصومال التي لا نعرفها.. «سويسرا أفريقيا» التي تصارع عليها 3 دول أوروبية كبرى
ما الذي قد يدور في ذهنك عند سماع اسم الصومال؟ صور أطفال تتضور جوعًا منشورة على وكالات الأنباء العالمية، وتقارير عن جماعات مسلحة وأمراء حرب، وبالتأكيد إحصائيات ضحايا الحرب الأهلية والنزاعات، أي بمعنى أدق: أخبار الفقر، والخراب، والمجاعات، وعدم الاستقرار، ومؤخرًا أعمال القرصنة!
قد تكون تلك الصورة الذهنية السائدة عن الصومال في الوقت الراهن، لكن قد يتناسى البعض أو لا يعرف من الأصل أن الصومال دولة قديمة جدًا، وكانت ذات أهمية كبيرة في مختلف العصور، قامت عليها حضارات متقدمة، و تصارعت عليها ثلاث دول أوروبية في القرن 19، ولقبت في الخمسينات والستينات من القرن 20 بلقب «سويسرا أفريقيا»، وسنتعرف في هذا التقرير على التاريخ المنسي للصومال.
الصومال قبل الميلاد.. حضارة عريقة ومركز تجاري عالمي
تعد الصومال أرضًا قديمة جدًا؛ إذ اكتشف فريق للبحث عن الآثار كهوف لاس جيل في الصومال عام 2002، والتي وجدوا بها رسومات ونقوش تعود تاريخها إلى ما يزيد عن 5 آلاف عام، وتؤكد وجود واستقرار إنسان العصر الحجري في أرض الصومال.
صورت لبعض الرسومات والنقوش في كهوف لاس جيل
تعاقبت الحضارات على أرض الصومال، وشيدت مركز تجاري هام لحضارات العالم القديم ومدن عريقة مازالت آثارها باقية حتى اليوم، وفي التاريخ الأحدث نسبيًا قامت حضارة بونت المعروفة والمشهورة في العالم القديمة، والتي كانت مركزًا كبيرًا للتجارة في العاج، والتوابل، والبخور، والعطور، والذهب، وميناء كبير للسفن التجارية من حول العالم، ذُكرت في المخطوطات المصرية الفرعونية والآشورية، وأطلق عليها أرض العطور والبخور، وزارتها الملكة الفرعونية حتشبسوت في القرن 15 قبل الميلاد، ووصفتها بـ«الشريك التجاري لمصر».
تقع الصومال في منطقة إستراتيجية للغاية، فهي تمتلك ثاني أطول ساحل بحري أفريقي على المحيط الهندي بطول 3500 كيلو متر، وتطل على خليج عدن الموقع الإستراتيجي لحركة الملاحة في العالم، تلك الامتيازات جعلت منها مركزًا للتجارة، وبلدًا ذات اقتصاد منتعش، وسهلت قيام حضارة البونت وتقدمها.
دخل الإسلام الصومال مع بداية القرن السابع، واعتبرت أرض الصومال إمارة إسلامية، وأصبح الإسلام الدين الرسمي للدولة، وشهدت تلك الفترة رواجًا تجاريًا واقتصاديًا كبيرًا، وكانت الصومال ذات قوة كبيرة، وأصبحت نقطة تجارية مهمة بين العرب والصين وغيرها من دول العالم.
ومع بداية القرن 15 ظهرت قوة الصومال كدولة وقوة عسكرية، خصوصًا في الحروب مع البرتغال والمسيحيين من الجارة الطامعة إثيوبيا، والتي خاضت معهما الصومال حروبًا عدة على الجبهة الداخلية والجبهة الساحلية.
الصومال بعد الميلاد.. مستعمرة أوروبية ومستقر للقبائل
تمتع الصومال بموقع متميز وثروة حيوانية كبيرة، إلى جانب الثروات الطبيعية، مثل اليورانيوم، والحديد، والفوسفات بجودة ضعيفة، والذهب، والفحم، والعطور، بشكل جيد، والبترول، والغاز الطبيعي مؤخرًا، تلك الامتيازات جعل منها مطمعًا للدول الاستعمارية.
وفي منتصف القرن 19 بدأ وقت معقد جدًا في تاريخ الصومال، وعلاقة غريبة بين الصومال والقوى الاستعمارية الأوروبية، ورغم أن الصومال كانت محتلة بالكامل، ومسرحًا للصراع بين دول أوروبا (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا)، لكن دائمًا ما كانت القبائل الصومالية في وضع جيد، وتتمتع باقتصاد مزدهر وحماية كاملة، وكامل الحرية في ممارسة النشاطات التجارية والدينية وغيرها من الحقوق.
بدأت أطماع أوروبا في منطقة القرن الأفريقي والصومال تظهر في النصف الثاني من القرن 19، فقد سعت كل من فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا إلى السيطرة على الصومال. بدأ الصراع بين الإمبراطوريات على محطات الفحم، بعد احتلال بريطانيا لخليج عدن وإقامة محطة للفحم في المنطقة عام 1839، حاولت بريطانيا التمدد في الصومال؛ لأنها كانت أرض الإمدادات من طعام ومنتجات للقاعدة العسكرية البريطانية في محطة الفحم الموجودة بخليج عدن.
لم تترك فرنسا بريطانيا وحيدة في القرن الأفريقي، وفي عام 1860 استحوذت فرنسا على موطئ قدم على الساحل الصومالي، وسيطرت عليه بشكل تام، وهي المنطقة التي ستعرف فيما بعد باسم جيبوتي، وأقامت فرنسا محطة فحم على الساحل الصومالي هي الأخرى.
ظل التوتر قائم بين فرنسا وبريطانيا طوال عقود، حتى أعلنت بريطانيا الحماية العسكرية علي الصومال عام 1887 بعدما أبرمت اتفاقيات مع شيوخ القبائل، والتي تضمن حرية القبائل الصومالية بشكل كامل، وحمايتهم من الخطر، وبذلك ضمنت بريطانيا ولاء القبائل، ونعمت القبائل بوقت مستقر، واقتصاد مزدهر في ظل الاستعمار، وفي عام 1888 اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا على ترسيم الحدود فيما عرف بالاتفاقية الأنجلو-فرنسية.
أقامت إيطاليا بمساعدة بريطانيا عام 1889 محمية إيطالية في وسط الصومال، وكان تفكير بريطانيا في استخدام إيطاليا حليفًا لوقف التمدد الفرنسي، توسعت المقاطعة الايطالية لاحقًا، وجرى توحيدها بأراض في الجنوب بعد تنازل سلطان زنجبار عنها لصالح الإيطاليين.
مع حلول القرن 20 تقسمت الصومال إلى ثلاث مقاطعات، مقاطعة فرنسية، ومقاطعة بريطانية، ومقاطعة إيطالية، والتي سيستقل منها جزء ويسمى أريتريا فيما بعد. حاولت إيطاليا تعزيز تواجدها في الصومال بكل الطرق منذ اليوم الأول، ونجحت في ذلك منذ عام 1904 وشكلت حينها ما عرف بالصومال الإيطالية، وقامت بالتوسع في البلاد كلما سنحت الفرصة.
في عام الجوع.. سويسرا أفريقيا تتبرع للخليج العربي
ظهرت مقاومة صومالية ضد القوى الاستعمارية مطلع القرن 20، قادت تلك المقاومة حركة الدراويش الصومالية ضد بريطانيا في الفترة من 1900-1920، وحركة ثوار الجنوب مقاومة بادير ضد إيطاليا عام 1904، ومن المواقف التي تؤكد الحياة الكريمة والرواج الاقتصادي للقبائل الصومالية رغم الاحتلال والمقاومة أنه ضرب الخليج العربي مجاعة شديدة في بداية القرن 20، حتى أطلق على عام 1909 عام الجوع؛ إذ تعرضت فيه المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج إلى مجاعة كبيرة راح ضحيتها الآلاف، وكاد البشر يأكلون بعضهم.
حتى أن بعض القصص يحكي أنه أثناء اشتداد الجوع في جدة قرر بعض الرجال الذهاب للصيد مهما كلفهم الأمر، بكت وتوسلت أم مراهق في القرية لقائد مجموعة الصيد أن يأخذ طفلها معهم لعله يؤمن بعض الطعام لنفسه ولهم، رفض القائد وتوسلت الأم، وأكدت أنها لا تخشى أن يموت ولدها في الرحلة الطويلة دون أي إنجاز، وأنها لا تملك سوى المحاولة، وافق القائد في النهاية، وخرج الجميع للصيد ومرت الأيام ولم تصادف المجموعة أي حيوانات برية لاصطيادها.
بدأ الجوع يفتك ببطون الرجال، وفجأه فكر أحدهم في قتل الصبي المراهق وأكله، بعد جدال مع المجموعة وافق الجميع، وقبل تنفيذ الهجوم ببعض الوقت مرت مجموعة من الكلاب البرية، هم الجميع لاصطياد الكلاب وأكلها وكتب للمراهق عمر جديد. في هذه الأثناء ساعدت الصومال المملكة العربية السعودية في تلك الأزمة الطاحنة، وتبرعت للمملكة بالماشية والمال أثناء فترة سيطرة حركة الدراويش والمقاومة عام 1909.
سيطرت إيطاليا على أجزاء كبيرة من الصومال، ونجحت عام 1936 بعد اتحاد أرض الصومال الإيطالية مع الأجزاء الناطقة بالصومالية من إثيوبيا لتشكيل مقاطعة من شرق أفريقيا الإيطالية، والتي تفاخر موسوليني حينها بتكوين الصومال الكبرى الموحدة.
قضت الصومال فترة استقرار وتقدم وتطور تحت حكم المقاطعة الإيطالية، ازدهرت التجارة، والزراعة، وبعض الصناعات الزراعية، وفي فترة الصومال الإيطالية شيدت المباني والكنائس ذات الطراز الرفيع والعصري، وفي النهاية نجحت إيطاليا في السيطرة الكاملة على الصومال عام 1940 بعد أن قام الإيطاليون باحتلال أرض الصومال البريطانية، وطرد الجنود البريطانيين.
لكن لم تدم السيطرة طويلًا، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية احتلت بريطانيا الصومال مرة أخرى، وهزمت الجيش الإيطالى، وبدأ فصل جديد في تاريخ الصومال نحو الاستقلال.
أعلنت الأمم المتحدة الوصاية على الصومال عام 1950، وأوكلت مهام إدارة البلاد لإيطاليا لمدة 10 سنوات، وبعد خمس سنوات منحت الصومال الحكم الذاتي الداخلي، وأخيرًا اندمجت الصومال الإيطالية والصومال البريطانية، وتشكلت جمهورية الصومال المتحدة عام 1960.
أقيمت انتخابات ديمقراطية في البلاد عام 1960، وفاز فيها الرئيس عدن عبد الله عثمان دار بالرئاسة الصومالية، وخسر الكرسي الرئاسي لصالح عبد الرشيد علي شرماركي عام 1967، ثم استقلت المستعمرة الفرنسية عن الوحدة، وأسست دولة جيبوتي، في هذا الوقت شهدت الصومال تطورًا كبيرًا على كافة المستويات، حتى أطلق عليها لقب سويسرا أفريقيا، وكأن القوى الاستعمارية رغم كونها استعمارًا إلا إنها شاركت بشكل من الأشكال في تطور وازدهار الصومال وبناء اقتصادها، كادت تكون سبب في قيام دولة صومالية قوية مستقلة.
الصومال التي نعرفها اليوم: مجاعات وحروب أهلية وقرصنة
اغتيل الرئيس عبد الرشيد علي شرماركي بعد عامين من توليه السلطة سنة 1969، وتولى القائد العسكري محمد سياد بري السلطة بعد انقلاب عسكري، ومن هنا بدأت الصومال في الانهيار، وتوجهت إلى الجانب الآخر من المعادلة، تدهورت أحوال البلاد في فترة الحكم العسكري، دخلت الصومال حروبًا غير مستعدة لها، وخسرتها مع الجارة إثيوبيا، وتدهور الاقتصاد يومًا بعد يوم.
عزل الرئيس محمد سياد بري عام 1991، بعد 20 عامًا من الحكم المطلق، ظن الصوماليون أنه من الممكن إقامة دولة قوية من جديد، لكنهم اصطدموا بالنزاعات، والحروب الأهلية، والتدخل الأجنبي، وصولًا إلى تقسيم البلاد لخمسة أقاليم عام 2006، ثم عصر المجاعات والقرصنة والعقوبات في الوقت الحالي، والذي تحولت إحدى قصصه إلى فيلم سينمائي شهير «كابتن فيليبس» بطولة توم هانكس، ونال عنه جائزة الأوسكار عام 2014، وهكذا تشكلت الصومال التي نراها ونعرفها اليوم، والتي تختلف تمامًا عن الصومال القديمة وتاريخها القوي، أو «سويسرا أفريقيا».