أعمال

«قوة الأرقام» لتغيير العوالم.. هل «الكبالاه» شعوذة وسحر أم طقوس صوفية؟

غالبًا ما يرتبط التصوف في أذهاننا بقصائد جلال الدين الرومي ورباعيات عمر الخيام – وكلها من أعمال التصوف الإسلامي لا شك – وكذلك الطرق الصوفية المنتشرة في مصر والسودان وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، إلا أن هناك جانبًا كثيرًا ما يغيب عنا فيما يخص التصوف، وهو عالمية الفكرة.

فالتصوف لم يكن يومًا حكرًا على جماعة دينية معينة، وإنما نشأت في معظم الأديان المعروفة واليهودية والمسيحية والإسلام على وجه الخصوص، تيارات فكرية وروحية وفلسفية يقودها مؤمنون متحمسون يستلهمون الرمزية ويبحثون عن معانٍ أكثر عمقًا، وربما غموضًا، داخل النصوص الدينية على اختلافها، واليوم نتعرف إلى واحدة من أهم مدارس التصوف اليهودي – إن لم تكن أهمهم على الإطلاق- ألا وهي الكبالاه بالعبرية أو «القبالة/القبلانية» بالعربية.

ما أصل التسمية؟

الكبالاه هي كلمة عبرية تعني «الاستقبال والتقاليد»، وتعني أيضًا نوعًا من «المراسلات» التي كانت بدورها مقصورة على فئة معينة من الأعضاء، وهي إحدى المدارس الفكرية المهمة في التصوف اليهودي. وشأنها شأن كل الطرق الصوفية التي تعتمد الرمزية، فإن تعريفها يختلف تبعًا للجماعة التي تتبناها؛ مما يصعب الوصول لتعريف دقيق ومحدد.

تتضمن الكبالاه مجموعة من التعاليم الباطنية، التي تدور في معظمها حول علاقة الإنسان الفاني بالله اللامتناهي، وطور الكباليون اليهود فهمهم الخاص للنصوص المقدسة في نطاق التقاليد اليهودية، وكثيرًا ما استخدموا الكتب المقدسة اليهودية الكلاسيكية (التوراة التلمود) في شرح تعاليمهم الصوفية وإثباتها.

نُشر أحد النصوص الكبالاية الأساسية، المعروفة بـ«زوهار»، لأول مرة في القرن الثالث عشر الميلادي بإسبانيا، وبعدها مملكة ليون، على يد الحاخام الإسباني، موشي بن شيم توف المشهور بـ«موسي من ليون» (1240– 1305).

يعد الحاخام إسحاق بن لوريا (1534– 1572) الأب الروحى للكبالاه المعاصرة، حتى إنه وبناءً على تعاليمه تأسست مدرسة «الكبالاه اللورية». وخلال القرن العشرين زادت وتيرة الاهتمام الأكاديمي بالنصوص الكبالية على إثر مجهودات الفيلسوف والمؤرخ جيرشوم شولم (1935– 1982) صاحب السبق في تطوير مناهج البحث التاريخي عن الكبالاه ضمن مجال الدراسات اليهودية من خلال كتبه المتعددة، والتي نذكر منها: «التيارات الرئيسية في الباطنية اليهودية».

ولفظ الباطنية هنا يحيل إلى السرية وأهمية التأويل والرمزية؛ إذ كانت كل هذه العمليات المعرفية الكبالية – إن جاز التعبير – تمارس ضمن التقاليد اليهودية ودون الخروج على أحكام شريعتها، ما يأخذنا إلى سؤال: هل كانت الكبالاه التيار الصوفي أو الباطني اليهودي الوحيد؟

الكبالاه ليس التيار الصوفي الوحيد.. تيارات صوفية يهودية أخرى

الحقيقة أن عالمية فكرة التصوف جعلت من الصعب على تيار أو جماعة صوفية بعينها أن تحتكر التصوف على إطلاقه، وعليه فقد ظهرت بالتوازي مع ظهور الكبالاه، وربما في الفترة نفسها، عدة مدارس صوفية يهودية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «صوفية المركبة»، وهي جماعة صوفية يهودية قديمة تأسست سنة 100 ق. م تقريبًا واستمرت حتى سنة 1000م.

وقد استندت صوفية المركبة، في تعاليمها لرؤيا موجودة في سفر حزقيال، وهو السفر الرابع من القسم الرابع المسمى «الأنبياء» من الكتاب المقدس، وفق النسخة العربية المعتمدة في ترتيبها على الأجزاء المترجمة من العبرية أولًا، ثم من اليونانية ثانيًا؛ مما يفسر اختلاف ترتيب الأسفار في النسخة العربية عن نظيرتها التي اعتمدت الترتيب العبري وحده.

وحزقيال هو اسم لأحد الأنبياء اليهود – مع الإبقاء على اختلاف فكرة النبي في التقليد اليهودي عن غيرها – عاش في القدس وتعرض للنفي على يد الملك الفارسي نبوخذ نصر الثاني، إلى بابل، في بداية القرن السادس ق.م فيما عرف بالسبي البابلي. ويُسمى أصحاب هذه المدرسة بصوفية المركبة نسبة إلى المركبة السماوية الموجودة في رؤيا حزقيال، وهي مركبة يجرها أربعة كائنات لكل منها أربعة أجنحة، ولكل منها أربعة وجوه: وجه رجل، وأسد وثور ونسر، ولطالما ارتبط مفهوم المركبة في التصوف اليهودي برؤيا حزقيال تلك.

لوحة رؤيا حزقيال، رافائيل، عصر النهضة، ويكيبيديا

أما المدرسة الثانية في التصوف اليهودي، والتي كانت بدورها معاصرة للكبالاه ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، فهي الحسيدية. تأسست الحسيدية على يد عائلات كبيرة، مثل عائلة كالونيموس التي ترجع أًصولها إلى شمال إيطاليا، إلا أنها هاجرت إلى ألمانيا تقريبًا القرن العاشر، وكذلك عائلة أبون الفرنسية، ضمن عائلات يهودية أخرى في ذلك الوقت.

كانت الحسيدية حركة اجتماعية معروفة بزهدها الصارم وعقيدتها الصوفية التي أعادت بناء مفهوم الأخلاق اليهودية بشكل جذري، كما بالغوا في الالتزام بما وصفوه بـ«دين شمايم» (قانون سماوي غير مكتوب) بدلًا من مجرد الالتزام بـ«الهالاخاه» (التقاليد اليهودية الشفوية)؛ مما يدلل على مبالغتهم في الاهتمام بالجوانب الروحية.

تعود الجذور الفكرية الحسيدية إلى العالم أبو هارون البغدادي (منتصف القرن التاسع)، وكذلك إلى ثلاثة من المفكرين الأساسيين في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وهم: يهوذا الورع، وصموئيل الورع، وإليعازر بن يهوذا. كان الحاخام يهوذا الشهير بالورع (1150– 1217) من ريجنسبورج بمدينة شباير الألمانية، وهي واحدة من أقدم مدن ألمانيا – زعيم الحسيديين الأول ويعد كتابه المسمى (كتاب الأتقياء) هو أهم بقايا هذه الحركة الصوفية.

واشتهر الحاخام إليعازر بن يهوذا (1106– 1238) أحد كبار التلموديين ومشاهير الكبالاه في القرن الثالث عشر وكان التلميذ المخلص ليهوذا الورع، واشتهر بأعماله وكتاباته في الأخلاق والقانون وخاصة كتابه «كتاب العطار»، وهو دليل شرعي للأخلاق والقوانين اليهودية للقارئ العادي، وقد انتشرت تعاليمه على نطاق واسع في المجتمعات اليهودية، وكان آخر عضو رئيس ينسب إلى هذه الحركة حتى وفاته.

مما سبق يمكننا القول بأن الكبالاه لم تظهر منفردة أو وحيدة في عالم التصوف اليهودي بل رافقتها حركات وجماعات صوفية أخرى، ربما لم تستمر بعضها بمرور الزمن، إلا أن الكبالاه قد استمرت وازدهرت في العصر الحديث، فما إذن الذي يميزها عن غيرها – إذا جاز التعبير- وما هو شكلها في عالمنا المعاصر؟

تعاليم الكبالاه.. دراسة التوراة واجب على اليهود الملتزمين

وفقًا لكتاب زوهار فإن دراسة التوراة تتم من خلال أربعة مستويات من التفسير. المستوى البسيط بالعبرية


«يشات»، والمستوى الرمزي بالعبرية «راميز»، والمستوى البحثي بالعبرية «ديراش»، وأخيرًا المستوى الصوفي أو التأويلي المسمى بالعبرية «سود»، والتي تعني سرًّا أو غموضًا، وهو المستوى الذي كانت تعده الكبالاه مقصورًا على فئة بعينها.

كذلك آمنت الكبالاه بأن دراسة التوراة والأدب الحاخامي المتمثل في التلمود هي واجبات أساسية على اليهود الملتزمين. ووفقًا لإسحاق بن لوريا ومعلقين آخرين على الزوهار، لا يملك غير اليهود الصالحين، جانبًا شيطانيًّا، وهم في نواحٍ كثيرة يشبهون أرواح اليهود. وقد آمن العديد من الكباليين الكبار بفكرة المساواة الإنسانية بين كل البشر، سواء كانوا من اليهود أو غير اليهود.

-إحدى صفحات الزوهار وهي نسخة نشرت 1809، محفوظة بمتحف تاريخ اليهود البولنديين، وارسو، بولندا، ويكيبيديا

يسعى التقليد الثيو صوفي  للكبالاه النظرية (المحور الرئيسي لزوهار) إلى فهم ووصف العالم الإلهي باستخدام الرموز الخيالية والأسطورية للتجربة النفسية البشرية. بوصفه بديلًا مفاهيميًّا بديهيًّا للفلسفة اليهودية العقلانية، ولا سيما العقلانية الأرسطية المتمثلة عند موسى بن ميمون، ثم أصبحت هذه التخمينات الرمزية هي التيار المركزي للكبالاه.

يشير تقليد «ثيوصوفي» إلى التأثير الفطري والمركزي للسلوك البشري على تخليص أو إتلاف العوالم الروحية؛ إذ إن الإنسان هو عالم إلهي مصغر، وهذه العوالم الروحية مجتمعة هي العالم الإلهي الكلي. ويمكن القول بأن الغرض من الكبالاه الثيوصوفية التقليدية هو إعطاء الممارسات الدينية اليهودية التقليدية هذا المعنى الميتافيزيقي الصوفي.

«أيَن سُوف».. الوجود الإلهي اللانهائي

تصورت الكبالاه مفهومين عن الله. أولهما الوجود الإلهي في جوهره المتسامي والمفارق للعالم المحسوس، بالعبرية «أيَن سوف» وهي تعني اللانهائي أو بلا نهاية، وهي الحالة الأصلية لله – حسب الكبالاه– قبل خلق المخلوقات، والثاني هو التجلي الإلهي في المخلوقات والكون الذين هم من صنع الله، وتعتقد الكبالاه أن هذين المفهومين يكملان بعضهما في الكشف عن الذات الإلهية.

وقد دأبت بعض المنصات الإلكترونية العربية على كتابتها «عين صوف»، ولكن بعد تواصل «ساسة بوست» مع مروة ناصر سيف الدين، باحثة دكتوراه بكلية الألسن جامعة عين شمس، قسم اللغات السامية (عبري) تبين أن مصطلح عين صوف المنتشر حاليًا يحمل دلالات مختلفة عن المقصود، فعين بمعنى مكان استجمام وصوف بمعنى الرحيق، أما الكتابة العبرية الصحيحة للكلمة فهي (أيَن سُوف – אין סוף Ayn Sof) بمعنى اللانهائي.

كمصطلح يصف الربوبية اللانهائية وراء الخلق، نظر الكباليون إلى «أيَن سُوف» بفتح الياء، بوصفها سامية جدًّا بحيث لا يمكن الإشارة إليها مباشرة في التوراة. إنه ليس اسمًا مقدسًا في اليهودية، ولا يمكن أن يحتوي أي اسم على وحي من «أيَن سُوف»، حتى إن وصفه بأنه «لانهائي» هو تمثيل غير كافٍ لطبيعته الحقيقية، بحسب اعتقاداتهم.

صورة تخيلية لـ«أيَن سُوف» والعوالم المتضمنة فيها، المصدر: ويكيبيديا

«السِفروت»: الفيوض الإلهية

والمقصود بها هنا التجليات الإلهية العشر التي يحافظ الله من خلالها على استمرارية وجود الكون، ويشرح كتاب زوهار أن هذه التجليات هي عبارة عن إمكانات كامنة في «أَين سُوف» تتجلى على العالم الخارجي في 10 تجليات لتصبح حينها ما يعرفونه بـ«السِفروت» الذي يعد أحد المفاهيم الأساسية في فكر الكبالاه.

وُصِف السِفروت في العصور الوسطى بأنه عبارة عن قنوات (فيوض) إلهية تنبثق من مصدرها وتنزل في تسلسل خطي، ونظم الحاخام موسى بن ميمون تفسيرات القرون الوسطى المختلفة لزوهار، وفي وقت لاحق، أعاد إسحاق لوريا صياغة الكبالاه في مرحلتها المفصلية الثانية من تاريخها.

تطورت كلٌّ من الفلسفة اليهودية العقلانية والكبالاه بين نخبة من المفكرين من يهود إسبانيا في العصور الوسطى، لكن مع بقاء الصرامة الفكرية اليهودية التي كانت تناقش داخل الدوائر الفلسفية.

في المقابل كان هناك التطور الاجتماعي للكبالاه الذي يسمح لهم بنشر واسع النطاق لأفكارهم وتعاليمهم من خلال مناشدة شرائح واسعة من الشعب اليهودي ودعمهم ما يعرف بـ«التدين الشعبي»؛ إذ تضمنت نظريتهم في العمق النفسي الأبعاد الأسطورية والخيالية والجنسية والشيطانية لكل التجربة الإنسانية في العصور الوسطى وربما بعدها.

بارتزوفيم أو وحدة الوجود

وحدة الوجود بالعبرية «بارتزوفيم» في الكبالاه اليهودية، هي ترتيبات خاصة للسِفروت العشرة. كل مظهر عبارة عن تكوين كيانات متباينة في وحدة متناغمة. وقد اشتقت أسماء تلك المظاهر من كتاب زوهار، وهي كلها مصطلحات مرادفة لمفهوم السِفروت، وقد ظهرت أهميتها في التطور التاريخى لعقائد الكبالاه خلال القرن السادس عشر مع الحركة اللوريانية، نسبة لإسحاق بن لوريا.

أحد كتب صلوات الكبالاه، نشر في ايطاليا 1803 محفوظ بمتحف زيورخ، سويسرا، ويكيبيديا

شجرة الحياة الكبالية

رسم تخطيطي يستخدم في مختلف التقاليد الصوفية. يتكون عادةً من 10 عقد ترمز إلى نماذج بدائية مختلفة، و22 سطرًا تربط العقد. غالبًا ما يجري ترتيب العقد في ثلاثة أعمدة لتمثيل أنها تنتمي إلى فئة مشتركة.

عادة ما يجري تمثيل العقد على شكل كرات، ثم تمثيل الخطوط مسارات. تمثل العقد عادة جوانب تشمل الوجود أو الله أو النفس البشرية. كما تمثل الخطوط عادةً العلاقة بين المفاهيم المنسوبة إلى المجالات أو وصفًا رمزيًّا لمتطلبات الانتقال من مجال إلى آخر، كما ترتبط العقد أيضًا بالآلهة أو الملائكة، أو الأجرام السماوية، أو القيم، أو الألوان الفردية، أو مجموعات منها، وأرقام محددة: عادة ما يجري ترميز الأعمدة كأعمدة.

تمثل هذه الأعمدة أنواعًا مختلفة من القيم أو الشحنات الكهربائية أو أنواعًا من السحر الاحتفالي، ودائمًا ما يشار إليها باسم شجرة الحياة الكبالية من أجل تمييزها عن المفاهيم الصوفية الأخرى التي تحمل الاسم نفسه.

شجرة الحياة  فى الكبالاه، ويكيبيديا

لكن.. هل مارس الكباليون السحر؟

يسعى التقليد السحري لما عرف بالكبالاه العملية (في المخطوطات غير المنشورة غالبًا) إلى تغيير العوالم الإلهية والعالم باستخدام الأساليب العملية. في حين أن التفسيرات الثيوصوفية للعبادة ترى دورها التعويضي على أنه مواءمة القوى السماوية وليس الوقوف ضد قدرها، إلا أن الكبالاه العملية تضمنت بشكل أو بآخر ما يمكن تسميته بـ«السحر الأبيض»، وقد حظرها القباليون بشكل رسمي، ومن ثم شكَّلت تقليدًا ثانويًّا منفصلًا تجنبته الكبالاه، إلا أننا لا يمكننا الحكم على استمراريته من عدمها بشكل مؤكد نظرًا إلى كونه نشاطًا سريًّا بالأساس.

علاقة الكبالاه والأرقام

الجيماتريا أو علم الأعداد اليهودي هو نظام عددي تتوافق من خلاله الأحرف العبرية مع الأرقام، وهي تحريف لكلمة يونانية الأصل اسمها جيماتريا يمكن العثور على مفهومها في كتابات الفيلسوف اليوناني أفلاطون في محاورة كراتيليوس؛ إذ أشار إلى الكلمات والأسماء بوصفها الطبيعة «الأساسية» للشخص أو الكائن، وتعد هذه الإشارة الأفلاطونية ذات تأثير رئيس في المفهوم اليوناني للجيماتريا وبطبيعة الحال المفهوم العبري اللاحق عليه كذاك.

وقد ظهر المصطلح للمرة الأولى في مجموعة من القواعد عددها 32، كتبها الحاخام عكيفا بن يوسف (40م– 145م) وهو نص لم يعد موجودًا إلا في المراجع التي تشير إلى فقرات منه. وقد وضع ابن يوسف 32 قاعدة لتفسير الكتاب المقدس وتضمنت القاعدة رقم 29 استخدام الجيماتريا في التفسير.

هذا النظام الذي طوره ممارسو الكبالاه أصبح أداة مهمة لتفسير النصوص التوراتية؛ إذ يجري تمثيل كل حرف عبري برقم مقابل له، ويمكن للمرء بعد ذلك حساب القيمة العددية للكلمة عن طريق جمع قيم كل حرف فيه، وهو شبيه بما نعرفه في العربية بحساب الحروف والجمل. فإذا كانت القيمة العددية للكلمة تساوي القيمة العددية لكلمة أخرى فقد يربط القارئ بين هاتين الكلمتين والآيات التي تظهران فيها ليستخدم حساب الأرقام هذا لإثبات استنتاجات مفاهيمية أوسع وأبعد.

وهناك استخدامان للجيماتريا، أولهما الاستخدام التقليدي القائم على المقارنة بين القيم العددية، وهو المستعمل في العديد من المدارس التأويلية اليهودية، أما الاستخدام الثاني فيستخدم لما يعرف بـ«كشف بواطن النصوص»، بحسب الكبالاه.

في محاولة لإضفاء الأقدمية التاريخية وفقًا للاعتقاد التقليدي، فقد نُقلت المعرفة الكبالية المبكرة شفهيًّا من قبل البطاركة والأنبياء والحكماء، ليجري في النهاية «نسجها» في الكتابات الدينية والثقافة اليهودية. وفقًا لهذا الرأي، كانت الكبالاه في العصور الوسطى تعد امتداد فترة مبكرة تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث يقدمون تفسيرًا بكونها كانت معرفة مخفية منذ ذلك الوقت المبكر في التاريخ بسبب الغزوات الأجنبية التي دفعت القيادة الروحية اليهودية في ذلك الوقت «السنهدرين» إلى إخفاء المعرفة وجعلها سرية، خوفًا من إساءة استخدامها إذا وقعت في الأيدي الخطأ.

الكبالاه المعاصرة

يوجد اليوم العديد من المنظمات غير الربحية والربحية التي تقوم على فكر الكبالاه وتحاول إعادة إحياء تعاليمهم ونشرها، مثل مركز الكبالاه الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية بمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا، وقد أنشئ على يد الحاخام اليهودي الأمريكي ذي الأصول الأوكرانية، فيليب بيرج، في عام 1984، والعضوية بمركز الكبالاه لها مقابل مادي، كما يحتوي موقع المركز على موقع للتسوق لبيع المنتجات الخاصة بالكبالاه.

هناك أيضًا ما يعرف باسم مجتمع الكبالاه وهي جمعية إنجليزية مركزها لندن تأسست في بداية السبعينيات لنشر تيار عرف باسم «توليندو كبالاه»، وهو تيار تزعمه الكاتب والمؤلف زئيف بن هاليفى. وهناك أيضًا الكثير من المواقع الإلكترونية التي تروج للكابالاه وما يرتبط بها، أشهرها موقع الكبالاه أون لاين، الذي يوفر جلسات تأملية وصلوات، وقراءات كبالية لنصوص التوارة وخدمات الزواج.

تجدر الإشارة إلى أن الكبالاه المعاصرة اجتذبت العديد من مشاهير هوليوود مثل مادونا التي أبدت تشجيعًا واهتمامًا كبيرًا بالأمر، حتى إنها ترأست إحدى اللجان الخيرية لجمع التبرعات الخاصة بمركز الكبالاه بلوس أنجلوس، بل إن بعضهم مثل الثنائي الشهير ديمي مور وأشتون كوتشر قد حضرا دروس الكبالاه في مركز لوس أنجلوس سالف الذكر.

وفي النهاية لا يمكن أن نكون قد غطينا كافة الجوانب ومختلف المناحي الخاصة بالكبالاه اليهودية ومراحل تطورها، إنما يمكننا القول إننا قد تعرفنا إلى أهم الجوانب الرئيسة والعامة الخاصة بـ«إحدى مدارس التصوف العالمي المتعدد الأطياف».

مقالات ذات علاقة

زر الذهاب إلى الأعلى