«زير النساء» الذي تكرهه النسويات.. هل كَرِهَ إرنست هيمنجواي النساء حقًّا؟
تقول الكاتبة الأسترالية ميكالا كليمنتس: «أحب إرنست هيمنجواي لكنه لا يتسع لدائرتي النسوية، في سنوات الجامعة كنا نتعامل مع معجبي هيمنجواي بريب، وهذا لكونه متهمًا بكتاباته الذكورية، عن المصارعة والصيد وغيرها من أعمال رجولية، إن هيمنجواي كاتب رقيق وتائه أكثر بكثير من الإطار الذي نضعه فيه؛ لا خلاف في أن تصوير المرأة في أعماله يعد كرهًا للنساء (misogynistic) لكنه أيضًا معقد، ومتداخل، يشتاق لها ويخاف منها في آن واحد، وعادة ما تكون المرأة على صفحات روايات هيمنجواي أكثر الشخصيات المرسومة بعناية».
في هذا التقرير نتناول حقيقة الاتهام الموجه للكاتب والصحافي الأمريكي الشهير إرنست هيمنجواي (1899-1961)، صاحب رائعة «الشيخ والبحر» بأنه كاره للنساء، ونبحث لماذا تكرهه النسويات؟ ونتتبع خطى النساء اللواتي شكلن حياته، وكيف وأين وضع النساء في أعماله؟
جريس هيمنجواي: «الشيطان الأول» في حياة إرنست هيمنجواي
«أعرف بما يكفي كي أقول بأنه يجب على أي امرأة ألا تتزوج مطلقًا من رجلٍ يكره أمه» الصحافية مارثا جيلهورن، زوجة إرنست هيمنجواي الثالثة
من والد يعمل في تجارة أدوات المائدة ووالدة مولعة بالموسيقى ولدت غريس هيمنجواي، أم الأديب الأمريكي الشهير، شجعت الأم ابنتها على المضي قدمًا في المسار الموسيقي؛ إذ كانت تنظم لها دروسًا في الكمان والبيانو ودروسًا للغناء، قابلت جريس إيد وجمعتهما صداقة، كان حينها إيد يدرس الطب ويخطط للزواج، لكن الزواج حينها لم يكن يشغل جريس التي كان لديها أحلام بمستقبل موسيقي.
صورة عائلية لإرنست الصغير (يمين الصورة) مع والديه وشقيقاته الثلاث
سافرت جريس وراء حلمها إلى نيويورك كي تدرس الموسيقى، لكن حين استمرت في الركض وراء حلمها دون أن تنال منه شيئًا، سرعان ما عادت إلى أوك بارك وتزوجت من إيد هيمنجواي: «ابن الجيران»، وحظي الزوجان بستة أطفال ثانيهم كان الكاتب الشهير.
«لم أعرف على الإطلاق رجلًا يكره أمه حقًّا، غير إرنست هيمنجواي» *جون دوس باسوس، الكاتب الأمريكي وصديق إرنست
كانت الأسرة تقضي إجازاتها في ميتشيجان، وكانت جريس في الأوقات التي لا تكون فيها منشغلة بالأطفال، تذوب في أحلام اليقظة بمنزل الأحلام ذي الثماني غرف، بعد ذلك بسنوات، سيوجه إرنست إصبع الاتهام واللوم ناحية والدته لانتحار والده الذي عانى من أعباء مالية، بسبب أسلوب صرف والدته غير المبالي.
في تساؤل هيمنجواي عن «الشيطان في هذه الحياة ومن يكون؟» يجادل كينت – أخو الكاتب الأمريكي الشهير – قائلًا إن انتحار والدهم كان إجابة عن سؤال إرنست مَن الشيطان؟ إذ ارتأى أن «والدته هي الشيطان».
زوجات وعشيقات.. «خريجات جامعة هيمنجواي»
«لا أمانع وقوع هيمنجواي في حب نساء أخريات، لكن لماذا عليه في كل مرة يحب فيها، أن يتزوج الفتاة التي أحبها؟» *بولين بفيفير ثاني زوجات هيمنجواي
تزوج إرنست من أربع زوجات، لكنه على طول حياته تنقل بين نساء عديدات، تدخل عشيقة وتزيح الزوجة وتصبح هي الزوجة ثم تظهر عشيقة جديدة تعيد فعل ما فعلته الأولى، وهكذا إلى أن أنهى حياته بإطلاق النار على نفسه، كانت حياة إرنست العاطفية أشبه ببركان من المشاعر والتغيرات الكثيرة والندم أيضًا، وفي فورة كل هذه المشاعر والأحاسيس كانت أعماله العظيمة تظهر إلى النور، تصف زوجته الرابعة مجموع زوجاته، بأنهن «خريجات جامعة هيمنجواي»، حتى إن بعض الزوجات جمعتهن صداقة فريدة.
هادلي ريتشاردسون.. شبح أمه يخيم على زواجه الأول
هل كان هيمنجواي يبحث عن والدته وهو يبحث عن زوجته الأولى؟ أم كان يبحث عن نسخة مؤنثة من نفسه؟ كانت هادلي ريتشاردسون موسيقية موهوبة مثل والدته، وكانت تكبره بثماني سنوات، وجمعهما أن والد كل منهما أقدم على الانتحار.
أحب إرنست هادلي من النظرة الأولى؛ إذ ذكرته بالممرضة التي داوت جراحه في الحرب العالمية الأولى والتي أحبها حينذاك، وبعد أقل من سنة من لقائه بها، تزوجا وانتقلا للسكن في باريس مدينة الأضواء التي ضمت عددًا من أدباء هذا العصر ومثقفيه وفنانيه من مثل جيمس جويس، وإزرا باوند.
صورة من مراسم زفاف إرنست وهادلي – مصدر الصورة: بنترست
تعرف الزوجان بعد ذلك إلى الصحافية بولين فايف بفيفير، وتوطدت علاقة هادلي بها فأصبحتا صديقتين مقربتين وبات الزوجان يصطحبان بولين في رحلاتهما، بعد زواج دام ست سنوات اكتشفت ريتشردسون العلاقة الغرامية بين بولين وزوجها، حاولت في بادئ الأمر أن تتغاضى عن الأمر لكن ذلك كان فوق استطاعتها، تصاعدت الخلافات بين الزوجين حتى وقع الطلاق في عام 1927، وفي العام نفسه تزوج هيمنجواي وبولين. وفي روايته الشهيرة «الوليمة المتنقلة» حاول إرنست إضفاء لمسة رومانسية على علاقته بزوجته الأولى ريتشردسون، الأمر الذي يعده البعض محاولة للتطهر.
بولين فايف بفيفير.. ثاني أطول زيجات الكاتب الشهير
أشار هيمنجواي في رواية «الوليمة المتنقلة» إلى أن بولين هي من قتلت علاقته بريتشردسون بفن الإغراء الذي كانت تتقنه، وكانت بولين تتمتع بعين محرر دقيقة استغلتها في إعطاء الكاتب الشهير ملاحظات على روايته «ثم تشرق الشمس»، واستمر زواجها به 13 عامًا، وكان ثاني أطول زواج في زيجاته.
في أواخر عام 1930 نشأت صداقة بين هيمنجواي والصحافية مارثا جيلهورن، وهنا تكرر ما سبق وأن حدث، فنشأت صداقة بين الزوجة والعشيقة ثم اختفت الزوجة من الصورة واحتلت العشيقة الكادر كله.
مارثا جيلهورن.. تحدٍّ طاغ وندية أنهت الزواج الأقصر بين زيجاته الأربعة
«مراسلة حرب أم زوجة في سريري؟» هيمنجواي في رسالة لجيلهورن عام 1943
غطى هيمنجواي ومارثا معًا الحرب الأهلية الإسبانية ووقعا في الحب، وبعد 16 يومًا من انفصال هيمنجواي وبولين، تزوج هيمنجواي ومارثا لكن هذا الزواج كان الأقصر من بين كل زيجاته؛ إذ دام لبضع سنوات فقط، من العوامل التي خلقت توترًا بين الزوجين كان الغياب الطويل لمارثا أثناء تغطيتها للحرب، حتى إن هيمنجواي كتب لها في رسالة عام 1943 متسائلًا عن كنهها: «مراسلة حرب أم زوجة في سريري؟».
وعلى عكس زيجاته السابقة، كان التحدي طاغيًا على علاقة هذين الزوجين، وإذ فجأة وكما زيجاته السابقة، وجدت مارثا عشيقة جديدة تتسلل إلى حياتهما الزوجية، وتزيحها، وبالفعل تطلق الزوجان في عام 1945.
ماري ويلش.. الزوجة الأخيرة التي ربما قتلته!
حين التقت ماري بالأديب الأمريكي في عام 1944 كانت تعمل صحافية في لندن، وعلى عكس طموح مارثا الذي كان ينافس طموح زوجها، سمح هدوء ماري شبه البرجوازية لإرنست بسرقة الأضواء منها. جدير بالذكر أن إرنست كان متزوجًا وماري كانت متزوجة أيضًا حين التقيا وقررا إنهاء علاقتيهما السابقتين كي يكملا الطريق معًا، وبالفعل تزوجا في كوبا عام 1946، وفي العام ذاته أجهضت ماري وعاش الزوجان في كوبا لسنوات عديدة، خلال هذه السنوات وقع إرنست في حب شابة إيطالية، وكان هذا كفيلًا بإنهاء الأمور بينه وبين ماري، لكن ذلك لم يحدث كما كان يحدث دائمًا، وظلت الزوجة راسخة في مكانها وانزاحت العشيقة من الصورة، ودام الزواج بالفعل 15 عامًا.
في عام 1959 انتقل الزوجان للعيش في كيتشوم- أيداهو بالولايات المتحدة، وكانت صحة إرنست العقلية آخذه في التدهور، وفي عام 1960 وقَّعت ماري على موافقة تسمح بعلاجه بالصدمات الكهربائية، وفي الصيف الذي يليه، انتحر هيمنجواي بطلقة رصاص في الرأس، حملت ماري على عاتقها ذنب انتحار إرنست، فأكثرت الشرب، لكن ذلك لم يمنعها من مواصلة عملها في الوصاية الأدبية على أعماله بعد وفاته، وقد تضمن ذلك روايتي «الوليمة المتنقلة» و«جنة عدن».
نساء هيمنجواي ورجاله على الورق
يقول الروائي والحقوقي رايان بلاكتر كاتب رواية «داون إن ذا ريفير»: «خلال سنوات دراستي الجامعية كثيرًا ما كان يتردد أن هيمنجواي يكره النساء، أغلب الأساتذة الجامعيين كانوا يرون أن شخصيات هيمنجواي النسائية ما هن إلا أمنيات الرجال (male fantasies)، نساء ضعيفات ومُتوكلات». يضيف بلاكتر: «لكن لي رأيًا مغايرًا، بعد قراءتي لهيمنجواي الكاتب، أراه يتعاطف بقوة مع كل البشر، ومن بينهم النساء».
الشمس ستشرق أيضًا.. رواية ذكورية ولكن
في رواية هيمنجواي الأولى «الشمس ستشرق أيضًا» ظهرت شخصية نسائية عظيمة هي الليدي بريت آشلي، مثل جُل البشر، تصبح بريت حسب ما يستدعي الموقف، قوية أو ضعيفة، اعتمادية أو مستقلة، تحب بريت، جاك لكنه يعاني من إصابة حرب تجعله غير قادر على إقامة علاقة جنسية، ماذا تفعل بريت؟ إنها تقضي ليالي أو نهايات الأسبوع مع رجال آخرين من أجل الجنس وبعض المرح والقليل من المال، يضيف رايان بلاكتر أنه حين يسمع أحد أساتذته يتلفظ بعبارة «امرأة قوية مستقلة» فإنه يصاب بنوبة ذعر ويود أن يغادر المبنى، إن بريت فشلت في أن تنضم لتلك المجموعة من النساء.
يقول بلاكتر أيضًا، إن بريت تعد واحدة من أروع الشخصيات النسائية التي كتبها هيمنجواي، توقع نفسها في المشكلات وتخرج منها، شخصية فريدة للغاية، ترتدي قبعة رجالية وتتجعد أطراف عينيها حين تضحك، دائمًا ما تخفي نواياها أو تحاول على الأقل، تغوي الرجال من حولها ثم ترفضهم الواحد تلو الآخر، أما كون راوي الرواية رجلًا واقعًا في حب امرأة، فهو ما جعل البعض يصنفها «رواية ذكورية»، لكن ليس بها شيء من كره النساء (misogynist)، على حد تعبيره.
وداعًا للسلاح.. النساء أيضًا قابلات للكسر
«العالم يكسرنا جميعًا، في نهاية المطاف الكثير منا يكون قويًّا في الأجزاء التي تعرض لها للكسر، لكن ما لا يكسرك يقتلك، تقتل الخيرين فينا وأكثرنا لطفًا وذوي القلوب الشجاعة، إن لم تكن واحدًا من هؤلاء فسوف تقتلك أنت أيضًا في نهاية المطاف لكن ستأخذ وقتها حتى تقتلك» * كاثرين براكلي، بطلة رواية «وداعًا للسلاح»
بعد نجاح رواية «الشمس ستشرق أيضًا» نشر هيمنجواي رواية «وداعًا للسلاح» والتي تحكي قصة حب تجمع بين فريدريك هنري وكاثرين براكلي في الخطوط الإيطالية الأولى من الحرب العالمية الأولى، هو سائق عربة الإسعاف وهي ممرضة متطوعة، في موعدهما الغرامي الثاني، كان فريدريك لم يقع في حبها بعد، لكنه أقنعها بأن يناما معًا وفوجئ بموافقتها السريعة؛ ما فسره على أنه نوع من الجنون.
لكن إن كانت كاثرين تعد مجنونة نوعًا ما، فاضطرابها هذا ناتج من تجربة شنيعة مع الحرب، يحمل فريدرك تجربة أقل منها. والرواية ليس بها العديد من الشخصيات النسائية، لكن النساء اللواتي في الرواية شخصيات لا تنسى، يكسرن القوانين الجندرية ليظهرن كما هن؛ محض بشر يخطئ وييأس ويصيب ويتحدى ويقع في الحب على الدوام، وربما هذا ما جعل البعض يتهم إرنست بالذكورية.
جنة عدن.. النساء يحلمن بالتحرر ولعب دور الرجال
تتناول رواية «جنة عدن» شهر عسل لزوجين جديدين في أوروبا، يقضيان أيامهما يتناولان الطعام ويحتسيان النبيذ ويسبحان ويناما معًا، تواتي الزوجة كاثرين فكرة «قنبلة خطرة» تقص شعرها للغاية، توضح كاثرين: «أنا فتاة، لكنني الآن فتى أيضًا، أستطيع القيام بكل شيء وأي شيء أي شيء»، فجأة تتحول الرواية لحلم إيروتيكي غريب؛ حيث يذوب كاثرين وديفيد ويتحدان معًا، ويتغير الجنس الذي يمارسانه أيضًا، بل يتبادلان الأدوار الجندرية، فتتقمص كاثرين دور الرجل في العلاقة، ويصبح زوجها هو المرأة!
رجل على يمين هيمنجواي وامرأة عن شماله
سيرة هيمنجواي بوصفه «زير نساء» حجبت العديد من الفرص لقراءته بصفته كاتب «كوير – Queer» (وهو مصطلح جامع لكل سلوك أو رغبة جنسية غير سوية، بدأ استخدامه في أواخر الثمانينيات بوصفه تعبيرًا ازدرائيًّا، إلى أن بدأ مثليو الجنس وأحرار السلوك الجنسي في استخدامه بوصفه تعبيرًا لا يحمل وصمة عار وإنما يعبر عن غُربتهم المجتمعية) لكن سلسلة من الزيجات الفاشلة لا تعد دليلًا على ذلك.
هل يكره هيمنجواي النساء؟ ربما كره إرنست أحيانًا بعض النساء، وعلى رأسهن أمه، لكنه بالتأكيد لا يكره جنس النساء بأكمله، فكل ما كتبه إرنست هو حصيلة الأيام التي عاشها مراقبًا المرأة عن كثب، ومدركًا عيوبها بحنكة، واضعًا ذلك في منتصف العلاقة بين شخصياته على الورق.
تحمل كتابات هيمنجواي سلوكيات ورغبات جنسية غريبة – في الوقت الذي كُتبت فيه – بشكل واضح للعيان، ومن المثير للدهشة أن أعماله لا تُقرأ بكثرة كما تقرأ أعمال هرمان ملفيل وإيميلي ديكنسون، فذكورية كتابات هيمنجواي التي رافقته في كل محطات حياته، وبعد وفاته، ما هي إلا عيناه التي تلاحظ بدقة شديدة ديناميكيات علاقات الرجال بالنساء والرجال بالرجال أيضًا. لقد أطلق هيمنجواي على مجموعة قصصية له، اسم «رجال بلا نساء» لكن كيف كان إرنست هيمنجواي ليكون بلا نساء في حياته؟ الإجابة لم يكن ليكون أبدًا، فالأديب الشهير أحب النساء لدرجة اتهامه بكراهية جنس النساء ومعاداته!