14/5/2022–|آخر تحديث: 14/5/202201:48 PM (مكة المكرمة)
دعنا أولا نمحي الانطباع الإيجابي الذي قد يتركه العنوان؛ الحرمان العاطفي قد يكون مفيدا في مراحل لاحقة من حياتك، هذا ليس أكثر من مجرد احتمال وارد الحدوث بعد أن تقع المعاناة بالفعل. هي محاولة لتدارك الضرر لا أكثر، ولا تعني بأي حال من الأحوال أن الحرمان العاطفي مفيد في العموم.
في الواقع، أخطر ما في الأمر أنه يُساء فهمه طوال الوقت، فعندما يتحدث أحدهم عن الحرمان العاطفي، غالبا ما نفكر في العلاقات بين الرجل والمرأة، ولكن الحقيقة أن تلك ليست إلا مرحلة واحدة -لاحقة غالبا- من متوالية مدمرة تعصف بقدرتنا على فهم مشاعرنا ومشاعر الآخرين والتعامل معها.
المفهوم نفسه مربك ومركَّب للغاية، لأن اعتياد الحرمان العاطفي في الطفولة أو بعد سن البلوغ يغير الشخصية، ويضفي عليها قدرا من التبلّد، وهنا يقع الخلط الخطير عند أغلبنا بين التبلّد والصلابة، فنعتقد أن المزيد من الحرمان العاطفي سيجعلنا أقوى. بعد فترة، ربما ندمن العلاقات السامة ونتوقف عن البحث عن الطبيعي، وكأننا نفضل قيادة سيارة متهالكة معطوبة لأننا اعتدناها وألفنا أعطالها، بدلا من استبدالها بأخرى جديدة تؤدي وظيفتها بكفاءة.
نحن نزرع الشوك
في الطبعة الرابعة من كتاب “طب الأطفال الإنمائي السلوكي (Developmental-Behavioral Pediatrics)” الصادرة في 2009 عن مجموعة من المتخصصين والباحثين الأميركيين، يُعرَّف “الحرمان العاطفي (Emotional Neglect)” باعتباره نمط العلاقات التي يتم فيها تجاهل الاحتياجات العاطفية للفرد، أو تسفيهها، أو التقليل من شرعيتها، بشكل منتظم من قبل شخص مهم في حياتنا(1).
يعتقد العلماء أن الأمر يبدأ في الطفولة، ولكنها مسألة مطروحة للنقاش حتى اليوم، في صورة أخرى من معضلة “البيضة والدجاجة”؛ هل يتعرض الناس للحرمان العاطفي في طفولتهم، ومن ثم يمارسونه على أطفالهم، أم أنهم يمارسونه على أطفالهم أولا، فيحولونهم لآباء يحرمون أطفالهم عاطفيا؟ لا إجابة قاطعة هنا طبعا، ولكن أطباء الأطفال والمعالجين النفسيين يحبون البدء عند الطفل، غالبا لأنه أقدر من البالغ على إثارة التعاطف والاهتمام.
الآباء والأمهات الذين عانوا من الحرمان العاطفي في طفولتهم غالبا ما يشعرون بضعف الصلة مع أطفالهم لاحقا. “غالبا” هنا تعبر عن نمط مثبت بالتجارب طويلة الأمد، لأن ما عانوه سابقا قد يدفعهم -عفويا وبلا وعي- إلى الاعتقاد بأن احتياجات طفلهم العاطفية للاهتمام والدعم والحب مبالغ فيها، أو مرهقة، أو غير مستحقة.
الأمر في جوهره بسيط وسهل الفهم، أشبه بالسرطان الذي تنقسم خلاياه لتضيف المزيد من التعاسة إلى العالم، ولكن ما يجعله معقدا هو الفاصل الزمني الضخم بين التعرض للحرمان في الطفولة واكتشاف آثاره المدمرة لاحقا؛ اعتياد الحرمان يدفع الناس للخوف من مشاعرهم تجاه الآخرين، سواء في العلاقات العائلية أو العاطفية، ومع الوقت يلجؤون إلى الاعتماد على أنفسهم -أنفسهم فقط- للدعم العاطفي والذهني والنفسي، وهذا يجعلهم أقل عرضة للتعرض للصدمات العاطفية لاحقا، ولكنه، في الوقت ذاته، يجعلهم أقل قدرة على تفهم المشاعر ذاتها عند الآخرين.
دكتور “ستيفن لودفيغ” و”أنتوني روستاين”، الباحثان اللذان اشتركا في إعداد الكتاب، يعتقدان أن أخطر ما في الأمر أن هذا قد يدفع الآباء والأمهات المحرومين عاطفيا إلى تطوير مشاعر سلبية تجاه أطفالهم، فيرونهم مدللين ومتطلبين لمجرد أنهم يطلبون حقوقهم العاطفية الطبيعية، وربما يشعرون بالحسد تجاههم لأنهم حظوا بما لم يحظوا هم به، أو يشعرون بالحاجة لتعويض كل ذلك بالمنّ، فيعتادون على تذكير أطفالهم بطفولتهم البائسة، ويشعرونهم بالذنب لأنهم يحظون بطفولة أفضل(2).
هذا مشهد مألوف للغاية في مجتمعاتنا العربية مع الأسف؛ الأب الذي يذكر أطفاله وزوجته يوميا بأنه يعاني في عمله من أجلهم، والأم التي تمنّ على أطفالها برعايتهم، والحديث المستمر عن التضحية والتعب والشقاء، وكأن الأطفال هم من قرروا إنجاب الآباء والأمهات لا العكس.
عموما، القاعدة السيكولوجية المهمة هنا تقول إن من الأفضل في العلاقات العائلية أو العاطفية المتزنة أن تمنح الآخرين فرصة لكي يدركوا مدى حبك لهم وتضحيتك من أجلهم، بأفعالك، على الأقل ما داموا لا يتجاهلونك عاطفيا بدورهم. هذا أقوى وأشد تأثيرا بكثير لأنه يترسب في اللاوعي مع الوقت، ويتحول إلى قناعة صلبة دون حاجة لشرح أو إقناع شفهي.
الجانب الآخر
هذا هو الجانب القبيح من الأمر، الجانب الذي لا تغني عنه المزايا اللاحقة في المراحل المتقدمة من الحياة، ولكن الدكتورة “جونيس ويب”، الطبيبة النفسية التي قضت حياتها في دراسة الحرمان العاطفي عند الأطفال، تتحدث عن الجانب الآخر، الجانب الذي لا يفيد إلا في حالة كنت أحد هؤلاء الذين تعرضوا للحرمان العاطفي بالفعل في طفولتهم، وتعاني الآن من آثاره(3)(4).
نشرت الدكتور “ويب” خلاصة أبحاثها في كتابين مهمين هما: “Running On Empty: Overcome Your Childhood Emotional Neglect” و”Running On Empty No More: Transform Your Relationships”، وهي تستخدم في العنوانين، كما هو واضح، التنويع اللفظي ذاته السالف ذكره، فتشبه الحرمان العاطفي بسيارة تحرق محركها لأنها تسير بلا وقود، وفي الكتاب الأول تشرح طريقة تجاوز آثار الاحتراق العاطفي في الطفولة إن جاز التعبير، أما في الكتاب الثاني فتتحدث عن استخدام الحرمان العاطفي ذاته بوصفه وقودا لتحويل علاقاتك العاطفية المستقبلية إلى الأفضل(5)(6).
كيف يمكنك ذلك؟ حسنا، لا نعلم كيف سنخبرك أننا على وشك إخبارك بما نحن على وشك إخبارك به، ولكن طبقا للدكتورة “ويب”، فهناك 5 مزايا رئيسية لهؤلاء الذين مروا بالاحتراق العاطفي في طفولتهم. لم نعرف بالضبط إن كانوا 5 لأنه رقم مكتمل مُغرٍ من الذي يُستخدَم عادة في العناوين، أم لأنها 5 فعلا(7)(8).
المهم أن الدكتورة “ويب” تقول إن خبراتها مع المحرومين عاطفيا تجعلها تصنفهم من ضمن أقوى الشخصيات التي احتكت بها في حياتها العملية والخاصة، وهذا على الرغم من التحديات العاطفية الصعبة التي يواجهونها عادة، والتي عادة ما تتمحور حول الميل للوم أنفسهم وإعادة توجيه غضبهم إلى الذات وفقدان التعاطف مع آلامهم الشخصية، وهي صفات، كما ترى، لا تعبر عن ذواتهم بقدر ما تعبر عن ذوات المحيطين بهم.
إن كنت أحد هؤلاء الذين يستخدمون عبارات مثل “لا أحتاج إلى المساعدة”، أو “سأتعامل مع الأمر بنفسي”، أو “لن أجد مشكلة فيما ستقرره أيا كان”، وبانتظام، فإن طب النفس يخبرك أن هذه القسوة في التعامل مع مشكلاتك وآلامك هي أحد آثار الحرمان العاطفي في الطفولة، وأن الإحساس المتكرر بقلة أهمية احتياجاتك العاطفية، والفشل المنتظم في تلبيتها، سيدفعك عند لحظة ما للإيمان بأنها غير مهمة فعلا.
هذه هي الحيلة النفسية التي يمارسها عقلك غير الواعي لتجنيبك الإحساس بالإحباط في المستقبل. إن كنت تطلب ولا تجد ما تطلبه، فمع الوقت ستقوم شخصيتك بتعديل أوضاعها لكي تُؤقلم نفسها على حل المشكلة عند الجذور، وبطريقة حسابية براغماتية تماما، أو بمعنى آخر، إن كانت النقطة “أ” تصل بك إلى النقطة “ب” في كل مرة، وإن كانت النقطة “ب” تؤلمك في كل مرة، فستتعلم بالتجربة أن تتجنب النقطة “أ” ابتداءً.
الخامسة ستدهشك
طبقا لأبحاث وتجارب الدكتورة ويب، فإن هناك قدرا من البأس العاطفي -إن جاز التعبير- ممكن اكتسابه من التجارب العاطفية الصعبة في الطفولة، وهو يتمثل في 5 صفات رئيسية لاحظتها عبر مسيرتها العملية في هؤلاء الذين عانوا من المشكلة في صغرهم(9)(10).
- أول هذه الصفات هي الاستقلالية
الجانب المضيء الوحيد للوحدة التي شعرت بها أثناء نموك هو أنك تعلمت أن تعتمد على نفسك طوال الوقت. كان عليك أن تحل مشكلاتك بنفسك، مع المعلمين والمتنمرين في المدرسة، ومع المشاعر المعقدة إبان المراهقة، ومع كل مفاجآت العالم من حولك. باختصار، كانت طفولتك تدريبا عمليا مستمرا على الاكتفاء الذاتي، وهذا أكسبك قدرا لا بأس به من المهارات، ربما لم تدرك قيمتها حينها، ولكنها أصبحت شديدة التأثير في حياتك بوصفك بالغا.
- الصفة الثانية هي العطف
عدد لا بأس به من الأبحاث والدراسات أثبت أن الأطفال قادرون على الشعور بالتعاطف تجاه الآخرين، وما تقوله الدكتورة ويب من أن اعتياد الحرمان العاطفي في الطفولة قد يجعل الناس أقل تواصلا مع مشاعرهم وآلامهم الشخصية، كمنهج دفاعي غريزي ضد الإحباط المتوقع، ولكنه في الوقت ذاته يزيد من حساسيتهم تجاه مشاعر الآخرين وآلامهم، ويجعلهم أكثر قدرة على تفهمها لأنهم يرون فيها ما عانوه خلال طفولتهم.
الاستدراك المهم هنا أنها ليست نتيجة حتمية، بل هي متوقفة بالأساس على شدة الحرمان العاطفي في الطفولة ومدى التوازن الذي قد يحدثه أحد العناصر غير الرئيسية في حياة الطفل. مثال، الخال/الخالة أو العم/العمة قد يُشعرون الطفل بأن المشكلة مقتصرة على علاقته بوالديه فقط، ومن هنا يستطيع التعامل مع مشكلته بشكل أفضل، ولا يحتاج لسحبها على المجتمع بأكمله، ولكن من الضروري التذكير أن هناك درجات من الحرمان العاطفي، بعضها قد يحول الطفل إلى شخص معادٍ للمجتمع (Sociopath)، لا يجد طريقة لتعويض آلامه سوى بإلحاق الألم بالآخرين.
- الصفة الثالثة هي الكرم
كنتيجة منطقية لما سبق، هذا البخل العاطفي في التعامل مع نفسك قد يدفعك لمزيد من الكرم في التعامل مع الآخرين، لتتزن روحك، ولتُميز نفسك عمن كانوا سببا في معاناتك. وبعد ذلك تأتي المرونة، وهي تلك القدرة الهائلة على التأقلم والتكيف مع الكثير من الصعوبات دون متاعب، والتي اكتسبتها بفضل تمرُّسك الطويل على تجاهل قناعاتك وآرائك ورغباتك واحتياجاتك.
- وأخيرا، وكنتيجة منطقية أيضا، ربما تكتسب حب الناس في النهاية
الاستقلالية والمرونة يجعلانك سهل المعاشرة، وأكثر حذرا في التعامل مع محيطك الإنساني، وأقل عرضة للوقوع في المشكلات، وخبراتك الصعبة تجعلك قادرا على النصح وتقديم الدعم عند الشدائد. كل ما سبق يمنحك مجموعة من الملامح الشخصية التي تكسبك الثقة في نفسك من ناحية، وثقة الآخرين في شخصك من ناحية أخرى.
هذا هو المدهش في الأمر فعلا، أن الشيء قد يؤدي إلى نقيضه أحيانا لسبب بسيط غاية في الأهمية، ولكن غالبا ما ينساه العلماء والباحثون عند إجراء التجارب المشابهة؛ قدرة البشر غير العادية على التأقلم والتكيف.
بالطبع، ألفاظ مثل “قد” و”أحيانا” شديدة الأهمية في هذا السياق، لأنها تُخصِّص ولا تُعمِّم، ولكننا نحب أن نعتقد أن في الأمر قدرا من العدالة الشعرية، وهذا القدر مع الأسف ليس موزعا بالتساوي على كل الحالات والسياقات، لأن الحرمان العاطفي يصنع الكثير من الضحايا كذلك.
_________________________________________________
المصادر:
- كتاب طب الأطفال الإنمائي السلوكي – Science Direct
- ملاحظات دكتور ستيفن لودفيغ ودكتور أنتوني روستاين على الحرمان العاطفي في الطفولة – Science Direct
- دكتور جونيس ويبّ – Psychology Today
- الأضرار الخفية المترسبة للحرمان العاطفي في الطفولة – Psychology Today
- كتاب Running On Empty: Overcome Your Childhood Emotional Neglect لدكتور جونيس ويبّ – Amazon
- كتاب Running On Empty No More: Transform Your Relationships لدكتور جونيس ويبّ – Amazon
- 5 نقاط قوة مُستغربة في المحرومين عاطفيا – Psychology Today
- 8 مؤشرات خطيرة على الحرمان العاطفي في العلاقات الأسرية – Psychology Today
- أسئلة عن الحرمان العاطفي – Dr. Jonice Webb
- 5 نقاط قوى مفاجئة في هؤلاء الذين تعرضوا للحرمان العاطفي – Understanding Compassion